حطَّ السفيرُ الأوَّلُ والأعظَمُ في التاريخِ مصعبُ بْنُ عميرٍ رحالَهُ بِيثربَ، فَعَدَتْ(1) أُمُّ عمارةَ الخُطَى إليهِ ملبيَةً، وتَشي الأحداثُ بأنَّ زوجَهَا زيدَ بنَ عاصمٍ وولدَيْهَا عبدَاللهِ وحبيباً سلكُوا مسلَكَهَا، وتبوّأُوا أماكِنَهُمْ(2) بينَ صَفْوةِ اليثرِبيينَ الذينَ بايعُوا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَقَبَةِ الثَّانِيَةِ بَيْعَةً مَا أَعَظَمَ شَأْنهَا فِي تَارِيخِ الإسْلامِ..
وَبَايَعَ عَبْدُاللَّهِ وَحَبيبُ ولا زالا يَدْرُجَانِ فِي أواخِر الصِّبَا، وَمِنْ لحْظَتِئِذٍ عَقَدَا عَزْمَهُمَا عَلَى بَذْلِ نَفْسَيْهِمَا نُصْرَةً لِدَيْنِ اللهِ، وَفَى يَوْمِ أُحدٍ كَانَتِ الْبِدَايَةُ، وَتَوَالَتِ الْمُشَاهِدُ وَبِصُحْبَةِ أُمِّهِمَا شَهِدَاهَا كُلَّهَا مَعَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ..
وَتَوَالَتْ عِنْدَهُمْ وَقْفَاتُ التَّارِيخِ، وَلَكِنَّ حَبيبَاً أَوَقْفَ التَّارِيخَ طَوِيلَاً فِي مَشْهَدٍ مُتَفَرِّدٍ تَمَامَ التَّفَرُّدِ.. تَعَالَوْا نَسْمَعُ التَّارِيخَ:
في الْعَامِ التَّاسِعِ الهجري تَمَدَّدَتْ مِسَاحَاتُ الضلالِ فِي نَفْسِ مسيلمةَ بْنِ حَبيبٍ الحنفي فَاِدَّعَى النُّبُوَّةَ، وَاِنْحَازَ لَهُ قَوْمُهُ وَأَنْفُ يَقِينِهِمْ مِنْ كَذِبِهِ رَاغِمٌ، حَتَّى قَالَ أحَدُهُمْ: أَشُهَّدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا لِصَادِقٌ، وَأَنَّ مسيلمةَ لِكَاذِبٌ، وَلَكِنَّ كَذَّابَ رَبِيعَةَ أَحَبٌّ إِلَى مَنْ صَادِقِ مُضرَ!
وَأَرْسَلَ الْكَذَّابُ لِلصَّادِقِ: “مِنْ مسيلمةَ رَسُولِ اللهِ إِلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ، سُلَّامٌ عَلَيْكَ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّي أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأرْضِ وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَهَا، وَلَكِنَّ قُرَيْشاً قَوْمٌ يَعْتَدُونَ”.
فَرَدَّ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُذَكِّرًا إِيَّاهُ بِحَقِيقَتِهِ وَعَاقِبتِهِ: “مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى مسيلمة الْكَذَّابِ أَمَّا بَعْدٌ، فَإِنَّ الْأرْضَ لله يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادَةٍ وَالْعَاقِبَةُ للمتقين”(3).
وَنَدَبَ(4) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذِهِ الْمُهِمَّةِ رَسُولًا تشِي أَخْبَارُهُ بِمُؤَهَّلَاتِ الْحِكْمَةِ وَالشَّجَاعَةِ، نَدَبَ حَبيبَا رضي اللهُ عَنْهُ، وَمَضَى حَبيبُ إِلَى مَا أَسَفَرَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِ..
وَمَا أَنّْ طَالعَ مسيلمةُ الرِّسَالَةَ الشَّرِيفَةَ حَتَّى ضَغَطَتْ وَسْمَةُ (الْكَذَّابِ) عَلَى جُرْحِهِ النَّازِفِ فَثَارَتْ ثَائِرَةُ ضَلالِهِ، وَأَمْرَ بِوَضْعِ حَبيبٍ فِي الْأَغْلَاَلِ وَجَمْعَ الْعَامَةَ، وَتَصَدَّرَ الْمَجْلِسَ رَافِلًا(5) فِي الْحَرِيرِ، وَبَيْنَمَا وَقْفَ حَبيبٌ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ، سَاكِنَ النَّفْسِ غَمَرَتْهٌ نَظَرَاتٌ الْكَذَّابِ الْحَانِقَةُ، وَسَأَلَهُ مصطنِعَاً الثِّقَةَ: أَتَشَهُّدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟
فَأَجَابَ حَبيبٌ غَيْرَ هَيَّابٍ: نَعَمْ أَشهَد..
فَلَحِقَهُ الْكَذَّابُ: أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللهِ؟!
فَرَدَّ حَبيبٌ عَاجِلًا: أَنَا أَصَمّ لَا أَسْمَعُ.
أَدْرَكَ مسيلمةُ لَذَعَ السُّخْرِيَّةِ، فَتَمَلْمَلَ(6) فِي مَكَانِهِ كَمَنْ كُبِتَتْ فِي جَوَّفِهِ ثَوْرَةٌ، وَكَانَ الْحَدَثُ الْجَلَلُ الَّذِي بَدَأَ بِحَبيبٍ وَاِنْتَهَى إِلَيْهِ، وَعَرَفَهُ التَّارِيخُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَأَوْقَفَهُ طَوِيلاً أَمَامَ مَعْنَى الْكُفْرِ وَإِسْرَافِهِ فِي الْقَسْوَةِ وَالْاِنْحِطَاطِ، وَمَعَنى الْعَقِيدَةِ الَّتِي يَهُونُ كُلُّ شَيء ولا تهونُ.
أَمْرَ الْكَذَّابُ جَلَاَّدَهُ بِقَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ حَبيبٍ، وَفَعَلَ الْجَلَاَّدُ، وَعَادَ الْكَذَّابُ يَسْأَلُ: أَتَشَهُّدٌ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؟
لَمْ يَتَرَاجَعِ الْحَقُّ فِي نَفْسِ حَبيبٍ وَأَجَابَ كَاظِمَا آلاماً لَا تُطَاقُ: نَعَمْ أَشْهَّدٌ!
فَاِسْتَأْنَفَ الْكَذَّابُ مُتَمَنِّيًا إِجَابَةَ مُغَايرَةً مَبْعَثُهَا قَطْعُ عُضْوِ حَبيبٍ: وَتَشْهَدُ أَنَّي رَسُولُ اللهِ؟!
لَمْ تُغَادِرْ حَبيبَاً صَلَاَبَتُهُ وَمِنْ خِلَالِ آلَاَمِهِ اِنْتَزَعَ نفس إِجَابتهِ: أَنَا أَصَمُّ لَا أَسْمَعُ!
وَكَأَنَّنَا بمسيلمةَ مُنْكَمِشًا فِي ضَعْفِهِ الْبشرِّى وَقَدْ هَوَتْ عِزَّتُهُ مِنْ عَلٍ وَاِسْتَقَرَّتْ تَحْتَ قَدَمَيْ حَبيبٍ، فَعَادَ يَخَلَعُ عَلَى نَفْسِهِ قُوَّةً زَائِفَةً وَيَأْمَرُ الْجَلَاَّدُ بِقَطْعِ عُضْوٍ آخرَ مِنْ أَعْضَاءِ حَبيبٍ، وَفَعَلَ الْجَلَاَّدُ، وَطَفِقَ الْكَذَّابُ يَتَعَلَّقُ بِكَذِبِهِ الَّذِى يَعِيشُ بِهِ وَلَهُ وَيَسْأَلُ نَفْسَ السُّؤَالِ الَّذِي لَمْ يُسْعِفْهُ عَقْلُهُ الضَّيِّقُ إِلَى اِبْتِكَارِ سِوَاهُ، وَطَفِقَ السُّكُونُ الأعمقُ يُسَرْبِلُ قَلْبَ حَبيبٍ وَمَشَاعِرَهُ، فَيُجِيبُ ذَاتَ الْإِجَابَةِ بِنَبْرَاتٍ كَادَتْ مِنْ ضِعْفِهَا تَسْتَحِيلُ إِلَى هَوَاءٍ، وَطَفِقَ الْجَلَاَّدُ يُقَطِّعُ عُضْوَا آخَرَ مِنْ أَعْضَاءِ حَبيبٍ حَتَّى أَنْهَكتْهُ الْجِرَّاحُ وَأَضْعَفَهُ النَّزِيفُ عَنِ التَّمَسُّكِ بِالْحَيَاةِ فَأَطْلَقَ قَلْبُهُ آخِرَ دِقَّاتِهِ وَأَضعفهَا، وَلَفْظَ آخِرَ أَنْفَاسِهِ وَأَعَزَّهَا..
وَبَيْنَمَا تَضْطَرِبُ الدُّنْيَا حُزْنًا عَلَى رَحِيلِ حَبيبٍ عَنْ عَالَمِهَا، كَانَتِ الْجنَّةُ تَضْطَرِبُ فَرَحًا بِصُعُودِ فَتَى الْإيمَانِ إِلَيْهَا.
لِنَتَأَمَّلَ وَنَتَأَلَّمَ وَتَتَرَاءَى لَنَا أَمُّ عِمَارَةَ وَقَدْ زَلْزَلَهَا خَبَرُ حَبيبٍ، فَيَطُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ذِكْرَاِهُ الْعِنَاقُ، وَتَغِيبُ مَعَ ذَاكِرَتِهَا وَذِكْرَيَاتِهَا وَمِنْ فَوْقِ سَاحَةِ أحَدٍ يَطُلُّ عَلَيْهَا صَدَى الْبِشَارَةِ النَّبَوِيَّةِ مُتَرَدِّدَاً بَيْنَ حَنَايَاهَا وَثَنَايَاِهَا لَمَّا أَجَابَهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَطْمَحِهَا الْمَخْبُوءِ خَلْفَ بَذْلِهَا وَاِسْتِبْسَالِهَا وَدْعًا لَهَا وَلَأهّْلِهَا: “اللَّهُمَّ اجعَلْهُم رُفقَائَي فِي الْجَنَّةِ”(7).
فَتَتَنَهَّدُ آسِيَّـةً، وَتَهْمِسُ شَجيَّـةً: لَا بَأسَ يَا حَبيبُ كُنْ فَرْطَنَا إِلَى هُنَاكَ وَانْعَمْ بُنَيَّ بِالرِّفْقَةِ النَّبَويَّةِ حَتَّى نَلْقَاكَ، وَتَمْضِى مَعَ أيَّامِهَا مُتَمَنِّيَةً عَلَى اللهِ أَنْ يَشْفَى فِي الْكَذَّابِ غَلِيلَهَا(8).
__________________________________
(1) عَدَتْ الخُطَى: أسرعت الخطى، أي كانت تعدو ولا تمشي.
(2) تبوَّأ المكان: نزله وأقام به.
(3) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 601).
(4) نَدَبَ: طلب واختار.
(5) رفَلَ: أي تبختر .
(6) تَمَلْمَلَ: تحرك في مكانه لإحساسه بتوتر داخلي شديد.
(7) مسند الإمام أحمد بن حنبل (15/ 282)، طبقات ابن سعد (8/ 415)، البداية والنهاية (5/ 282)، سير أعلام النبلاء (2/ 282).
(8) راجع السيرة النبوية لابن هشام (1/ 467)، وأسد الغابة (1049)، والإصابة (1589).