لا يزال فرعون مستمراً بالمراوغة مع موسى عليه السلام في دعوته إليه، وهو مع كل الأدلة العقلية والحجج المنطقية -التي استعرضناها في المقالات السابقة من هذه السلسلة- لا يزال مستكبراً نابذاً للحق الذي جاء به موسى، الذي يدل على صدق دعوته، وصحة نبوته، ويدل على أن الله واحد لا شريك له ولا ندَّ له، وأن ما يدّعيه فرعون من الألوهية محض كذب وافتراء، واستخفاف منه لقومه وتعالٍ عليهم، كما أشار لذلك البيان القرآني.
وفي هذا المقال أذكر الآيات التي قال الله فيها: إنّ فرعون رأى كل الآيات التي لا يختلف فيها عاقل أنها صدق وحق من الله، ولكنه ردّها استكباراً وجحوداً، متهماً موسى باتهامات سخيفة بيّنة البطلان.
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾ (طه: 56):
– ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ﴾ أي: فرعون.
– ﴿آيَاتِنَا كُلَّهَا﴾ أي: كل المعجزات الدالة على صدق رسالة موسى وصحة نبوته. (التفسير الموضوعي، 5/ 261).
وهي الآيات التسع التي جعلها الله تعالى حُجة لموسى، وهارون، ودليلاً على صدقهما، كما قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ (الإسراء: 101)، وهي العصا واليد والطوفان والقمل والضفادع والدم والسنين والنقص من الثمرات، تلك هي الآيات التي أراها الله لفرعون والكلية في قوله: ﴿أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا..﴾؛ أي: كل الآيات الخاصة به كما تقول لولدك: “لقد أحضرت لك كل شيء”، وليس المقصود أنك أتيت له بكل ما في الوجود، إنما هي كلية إضافية تعني كل شيء تحتاج إليه.
ومع ذلك كانت النتيجة: ﴿فَكَذَّبَ وَأَبَى﴾، وكذّب: يعني نسبها إلى الكذب، والكذب قول لا واقع له، وكان تكذيبه لموسى علّة إبائه: ﴿وَأَبَى﴾، امتنع عن الإيمان بما جاء به موسى، ولو ناقشنا فرعون في تكذيبه لموسى عندما قال: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ (طه: 50)، لماذا كذبت يا فرعون؟
الحق سبحانه قال: خلقت هذا الكون بما فيه، ولم يأت أحد لينقض هذا القول، أو يدّعيه لنفسه، حتى أنت يا من ادّعيت الألوهية لم تدّعِ خلق شيء، فهي إذن قضية مسلّم بها للخالق عزّ وجل لم ينازعه فيها أحد، فأنت -إذن- كاذب في تكذيبك لموسى، وفي إبائك الإيمان به. (تفسير الشعراوي، 15/ 9301).
ورد فرعون على موسى متهماً له بأنه يطمع في الحكم والسلطان، وأنه أتى ينازع فرعون في سلطانه على أرضه وشعبه، وأما المعجزات التي أيده الله تعالى بها ليست سوى عمل من أعمال السحرة. (التفسير الموضوعي، 5/ 261).
قال تعالى: ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ (طه: 57).
لم يمض فرعون في الجدل؛ لأن حجة موسى عليه السلام فيه واضحة، وهو يستمد حجته في آيات الله في الكون، ومن آياته التي تتصل في سيرته، فقال: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى﴾ وهو سؤال استنكار ومعناه: ما جئتنا نبياً هادياً، إنما جئتنا تُريد لنفسك الحكم والسلطان، فتخرجنا بسحرك من ديارنا وتغلبنا عليها، وهي الحجة نفسها التي يحتج بها كل الطغاة والظالمين في جميع العصور، يتهمون كل داعية ومصلح ومعارض لطغيانهم وظلمهم بأنه يريد الحكم والسلطان لنفسه، وأنه لا يريد إصلاحاً ولا عدلاً.
إذن، إن دعوة موسى في نظر فرعون دعوة سياسية، بحسب الاصطلاح الدارج في العصر الحاضر، وقد يكون بين الدعاة المصلحين من يتطلع إلى الدنيا ورتبها ومراتبها وزخرفها وزينتها، ويَكثر هذا في عصور الفتن، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل”، وقوله: “بادروا” أيّ: سارعوا إلى الأعمال الصالحة قبل تعذّرها والانشغال عنها بالفتن الحادثة، ولكن الأنبياء عليهم السلام لا يكون منهم شيء من هذا أبداً، فدعوتهم منزهة عن جميع الأغراض الدنيوية وهي خالصة لله تعالى، فهم المعصومون بعصمة الله تعالى لهم، وهو سبحانه الذي اصطفاهم واختارهم، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، وقد مرّ معنا:
– قوله تعالى في موسى عليه السلام: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ﴾ (طه: 13).
– وقوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ (طه: 39).
– وقوله تعالى: ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ (طه: 41).
وأراد فرعون أن يقوّي تهمته لموسى ويعزّزها، فقال على سبيل التحدي. (التفسير الموضوعي، 5/ 261).
قوله تعالى: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى﴾ (طه: 58).
فسمّى فرعون ما جاء به سحراً، ولذلك قال: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ..﴾، وهذه التسمية خاطئة في حق موسى، وإن كانت صحيحة بالنسبة لقوم فرعون، فما الفرق -إذن- بين ما جاء به موسى وما جاء به قوم فرعون؟ السحر لا يقلب حقيقة الشيء بل يظل الشيء على حقيقته ويكون السحر للرائي، فيرى الأشياء على غير حقيقتها، كما:
– قال تعالى: ﴿سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ..﴾ (الأعراف: 116)، فلما ألقى السحرة حبالهم كانت حبالاً في الحقيقة، وإن رآها الناظر حيّات وثعابين تسعى، أما عصا موسى فعندما ألقاها انقلبت حية حقيقية بدليل أنه لما رآها كذلك خاف.
– وقوله: ﴿فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ﴾؛ أيّ: نتفق على موعد لا يُخلفه واحد منّا.
– ﴿مَكَانًا سُوًى﴾ أيّ: مستوياً؛ لأنه سيكون مشهداً للناس جميعاً، بحيث لا تُحجب الرؤية عن أحد، أو ﴿سُوًى﴾ يعني: سواء بالنسبة لنا ولك، كما نقول: نلتقي في منتصف الطريق، لا أنا أتعب ولا أنت. (تفسير الشعراوي، 15/ 9303).
– ﴿مَكَانًا سُوًى﴾: الذي يستوي الجميع في معرفته، ولم يقبل فرعون على تحدي موسى مباشرة، بل رجع أولاً على أعوانه ومستشاريه، كما دلت على ذلك الآيات في سورة “الشعراء”، قال تعالى: ﴿قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ {34} يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ {35} قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ {36} يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ﴾ (الشعراء) (التفسير الموضوعي، 5/ 262).
قوله تعالى: ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ (طه: 59).
قَبِلَ موسى عليه السلام تحدي فرعون له، واختار الموعد يوم عيد من الأعياد الجامعة، يأخذ فيه الناس في مصر زينتهم ويتجمعون في الميادين والأمكنة المكشوفة.
– ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ﴾؛ طلب أن يحشر الناس ضحى، وذلك ليكون المكان مكشوفاً والوقت ضاحياً، فقابل التحدي بمثله وزاد عليه اختيار الوقت في أوضح فترة من النهار وأشدها تجمعاً في يوم العيد، لا في الصباح الباكر حيث لا يكون الجميع قد غادروا البيوت، ولا في الظهيرة فقد يعوقهم الحر، ولا في المساء حيث يمنعهم الظلام من التجمع أو من وضوح الرؤية، وانتهى المشهد الأول من مشاهد اللقاء بين الإيمان والطغيان في الميدان. (في ظلال القرآن، 4/ 2340).
إن موسى عليه السلام لم يخش من تحشيد فرعون للسحرة؛ لأنه كان على يقين أنه على الحق المبين، وكان حريصاً أن يرى أكبر عدد ممكن من الناس أحداث المناظرة بين الحق والباطل، وتجلى حرصه في الآتي:
– اختيار يوم عيد (يوم الزينة)؛ حيث يتفرغ الناس للمباراة.
– اختيار مكان سوى واسع بارز ليشاهد الجميع المباراة.
– اختيار وقت المباراة في ضحى النهار ليشاهد الناس المباراة بعيونهم، فيحسنوا الحكم على ما يجري فيها، وحريصاً على هداية الناس وهزيمة الباطل وانتصار الحق، ووصوله إلى عقولهم وقلوبهم.
لقد كانت الطريقة التي تعامل معها موسى عليه السلام في قبول التحدي صائبة، وجعلت دعوته ومواجهته لفرعون وتحديه للسحرة حديث الناس في بيوتهم ومجالسهم، وأصبحوا ينتظرون يوم الزينة، وبذلك نجح موسى عليه السلام في نقل دعوته من حوار خاص مع فرعون بين جدران ضيقة وخلف أبواب مغلقة إلى مكان واسع سُوى وتحويلها إلى حدث شعبي يهم الناس كلهم ويحرصون على متابعة مشاهده المتلاحقة، وهذا من حكمة موسى في الدعوة إلى الله. (القصص القرآني، المصدر نفسه، 2/ 440).
________________________________________
ملاحظة: اعتمد المقال في مادته على كتاب: “موسى كليم الله”، للدكتور علي محمد الصلابي، واستفاد في كثير من مادته على كتاب: “التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم”، للدكتور عبدالحميد طهماز.
1- موسى عليه السلام كليم الله عدو المستكبرين وقائد المستضعفين، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 2022م.
2- في ظلال القرآن، سيد إبراهيم قطب، القاهرة، دار الشروق، ط32، 1423ه/ 2003م.
3- تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، القاهرة، مكتبة الأسرة، ط1، 1992م.
4- التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، عبد الحميد محمود طهماز، دمشق، دار القلم، ط2، 1435ه/ 2014م.