قليلة هي الكلمات العظام التي تساوي الواحدة منها ألفاً لما تحويه من معانٍ جليلة ووصايا نبيلة، ومن هذا المهيع المتسع وقعت عيني على سبيكة ذهبية أهداها العباس لولده رضي الله عنهما؛ “عن ابن عباس قال: قال لي أبي: يا بني، إن عمر يدنيك ويقدمك على الأشياخ فاحفظ عني خمساً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تعصين له أمراً، ولا يطلعن منك على خيانة”، قال الشعبي: كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف([1]).
أي بلاغة وأي فصاحة جاءت في هذا التوجيه البليغ والإرشاد الفصيح من الوالد الناصح الأمين لولده ومعقد أمله ومحط فؤاده: “يا بني”؛ كناية عن الرحمة والشفقة والحنان والحرص على المصلحة وشدة الحب بما يعجز عن وصفه بيان، ولله ما أجمل براعة هذا الاستهلال، والأجمل أن يكون الحوار بين الآباء والأبناء على هذا النسق البديع؛ أعني أن يكون الخطاب بين كل منهما “يا أنا”، وكأن الوالد يخاطب بعضه، وإن كان يحلو للبعض أن يلبي رغبات أولاده من ملذات الحياة، فإن والده أعطاه درساً في فن الصحبة واحترام الصاحب؛ فحذره من هذه الرذائل الممجوجة التي تعصف بكيان الصحبة، وكأنها جمر تحت الرماد وبركان ينتظر الانفجار.
صيانة السر
صيانة السر آية من آي الشرف والعقل، وخلة من خلال المروءة والنبل، وسمة من سمات أهل الفضل، ومن بديع كلامهم: صدور الأحرار قبور الأسرار، وكتمان الأسرار يدل على نفاسة معدن الرجال، فمن ملك سرك ملك رقبتك، وليس بمستغرب أن يكون حجر الزاوية في هذه الوصية البليغة “لا تفشين له سراً”؛ لأن الأسرار كالأمانات يجب حفظها، والوالد الفطن يعلم أن ولده في مرحلة التكوين وسيخالط الفاروق في الحل والترحال، فليكن أميناً على سره لينال ثقته، لقد كان كتمان الأسرار في حياة الشرب الأول شرعة ومنهاجاً، وحتى الأطفال كان لهم فيه النصيب الأوفر.
عن أنس رضي الله عنه قال: أتى عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ألعب مع الغلمان، فسلم علينا، فبعثني إلى حاجة فأبطات على أمي، فلما جئت قالت: ما حبسك؟ قلت: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة، قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر، قالت: لا تخبرن بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً، وإفشاء الأسرار معول هدم ينخر في بنيان الأسر والمجتمعات ويقطع الأواصر والقربات([2]).
الغيبة مرعى اللئام
الغيبة آفةٌ مرذولةٌ وعلةٌ ممقوتةٌ ما انتشرت في مجتمع إلا قامت فيه الظنون السيئة وأنبتت فيه التجسس والتحسس؛ إذ هي زاد الخبيث وطعام الفاجر، ومرعى اللئيم وضيافة المنافق وفاكهة المجالس المحرمة، فكم أفسدت من ود، ومحت من حب، وقتلت من ثقة متبادلة، وقطعت من علاقة محكمة، ويكفي فيها قول الملك العلام: (وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ) (الحجرات: 12)، قال العلاَّمة ابن كثير في تفسيرها: “أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذاك شرعاً، فإن عقوبته أشد من هذا، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها”([3]).
الكذب البهرج الخداع
يقرر العقلاء أن الكذب جماع كل شر، وهو مفتاح النفاق وأساسه، يترفع عنه أصحاب الفطر السليمة، ويستوطن النفوس العقيمة والأرواح العليلة، قامت له في الدنيا سوق رائجة، ارتفعت راياته وعلا صوته وكثر أتباعه وسار في الناس سريان الماء في الجداول؛ (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ {8} يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ {9} فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) (البقرة)، ويقول المعصوم صلى الله عليه وسلم: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان”([4])، ولعظم جرمه قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ: يا بُنَيَّ احْذَرْ الكَذِبَ فَإنَّهُ شَهِيٌّ كَلَحْمِ العُصْفُورِ مَن أكَلَ مِنهُ شَيْئًا لَمْ يَصْبِرْ عَنْهُ. وقالَ الأصْمَعِيُّ: قِيلَ لِكَذّابٍ ما يَحْمِلُكَ عَلى الكَذِبِ؟ فَقالَ أما إنّكَ لَوْ تَغَرْغَرْتَ ماءَهُ ما نَسِيتَ حَلاوَتَهُ،”([5])، ولخص الإمام ابن القيم ما نحن فيه بقوله: “الإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب، فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر”([6])، ولذا قال العباس لولده: “لا يجربن عليك كذباً ولو مرة واحدة حتى لا تزلّ قدمك في مهاوي الردى فتصبح كذاباً”.
بين الأمانة والخيانة
الخيانة سوس ينخر في كيان الأمة يستأصل شأفتها، وينتهك حرمتها، ويستل الأخضر واليابس من عزتها وقوتها، وما من صدع في جدار الأمة إلا وخلفه خائن غادر، وهي صفة من صفات اليهود، وسمة من سماتهم، ولا يمكن أن تجتمع الأمانة مع الخيانة، فمن ضيع الأمانة ورضي بالخيانة فقد تبرأ من الديانة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (الأنفال: 27)، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخيانة فكان من دعائه: “وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة”([7])، ويقول الإمام الذهبي رحمه الله: “الخيانة قبيحة في كل شيء، وبعضها شر من بعض، وليس من خانك في فلس كمن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائم”[8]، ولأن الخيانة هي بوابة كل المعاصي والرذائل، فقد جعل العباس لولده حاجزاً منيعاً ودفعه ناحية الريح الطيبة ليحيا بين الكرام أميناً مأموناً.
قصارى القول وحماداه: إن الشيوخ هم أشجار المعرفة والوقار، وثمار الحكمة وينابيع العطاء، وموطن التجربة والخبرة، والتجاعيد في وجوههم هي توقيع الزمن وبصمته على مرور الأيام والليالي في حياة الأبرار منهم، ومن خالطهم وجالسهم لا بد وأن يقوم بفائدة، وأن يحظى بخير عميم وفكر ثاقب ورأي رشيد، ولضمان هذه الصحبة وصيانتها بسياج كريم همس العباس في أذن ولده بهذه الوصية الغالية التي تعد من عيون الحكمة؛ حتى يظل نهر الحب والوفاء هادراً بين فتى الكهول وفاروق الأمة رضي الله عنهما.
ما أحوج الآباء إلى مثل هذه المصارحات والوصايا التي تسهم بشكل كبير في رعاية الناشئة حتى يستوي الزرع على سوقه، ويشب النتاج صالحاً في مجتمع المسلمين المنشود عن طريق تنمية وتبادل الأفكار بين الشباب والشيوخ، وتبقى الحقيقة المهمة: أن الشيوخ هم عقل الأمة.
____________________________________
([1]) سير أعلام النبلاء (3/344).
([2])أخرجه البخاري (162)، ومسلم (2482).
([3]) تفسير القرآن العظيم (4/2694).
([4]) أخرجه البخاري (2682)، ومسلم (59).
(5) لآداب الشرعية لابن مفلح (1/41).
([7]) أخرجه أبو داود (1547)، والنسائي (5468)، وابن ماجه (3354).