الرقمية متغلغلة في حياة الإنسان المعاصر، وقادرة على إعادة تعريف الحياة الإنسانية، لتكون أهم شواغلها واهتماماتها، فيزيد عدد مستخدمي الهواتف الذكية عام 2023م عن 6.8 مليارات شخص، وهو ما يعادل 89% من سكان الأرض، وتشكل الهواتف الذكية نسبة 95.8% من مستخدمي الإنترنت، كما يبلغ إجمالي مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي 4.74 مليارات إنسان؛ أي 59.3% من البشر.
الانتشار الواسع للرقمية تلازم معه انتشار الجرائم الإلكترونية، تشير تقديرات عام 2023م أن تكلفة الأضرار العالمية لتلك الجرائم ستصل إلى 10.5 تريليونات دولار سنوياً بحلول عام 2025م، وإذا اعتبرنا الجريمة الإلكترونية “دولة”، فستكون ثالث أكبر اقتصاد عالمي، لذلك وصف الملياردير الأمريكي “وارن بافيت” أن الجريمة الإلكترونية بأنها الخطر الأكبر على البشرية، فمثلاً برامج الفدية(1) (Ransomware) قُدرت تكاليف أضرارها بـ20 مليار دولار عام 2021م.
وهنا تطرح إشكالات كبرى حول العلاقة بين الأخلاق والرقمية، وهل يمكن بناء وعي ضميري في الفضاء الرقمي يحول دون وبائية الجرائم الإلكترونية، أم أن الرقمية ساحة خالية من سلطان الضمير ووخزه؛ لأنها فضاء تشكل في ظل الحداثة والعلمنة، ولا مكان للغيب في بنيته وتفاعلاته؟
الفطرة المهدرة
الضمير صوت الله في الإنسان، والفطرة المميزة بين الخير والشر، والممسكة بمعايير الصواب والخطأ، واليقظة الذاتية التي لا تكف عن اللوم والتقريع مع الانحراف أو الخطأ.
يؤكد التاريخ أنه مع عمليات التحديث والعلمنة خلال القرون الثلاثة الأخيرة، تراجع دور الدين في العالم الغربي، حالة وصفت بـ”نزع القداسة” فكان تغييب الإيمان، وتجاوز المعايير الأخلاقية التي وضعها الدين، والادعاء بـ”موت الإله”، وهنا انتقلت قوة الضبط والإلزام والعقاب بعيداً عن الدين، نحو المجتمع وما يفرضه من قانون وعقوبة، ارتآها لتحقيق الانسجام والانضباط داخله، فأصبح الضمير صوت المجتمع وليس صوت الدين.
كان هذا التحول كبيراً ذا كُلفة إنسانية باهظة؛ إذ غُيب الوازع الداخلي الذاتي في تحديد الأخلاق، وكان مدعاة للشخص للتفلت وارتكاب ما يشاء، ما دام في مأمن من القانون، وربما هذا ما يفسر وجود أكثر من مليار كاميرا مراقبة في العالم عام 2021م، ووجود 54% منها في الصين، أي أن هناك كاميرا واحدة لكل ثلاثة صينيين؛ وهو ما يعني أن التكنولوجيا أصبحت البديل الأمثل للضمير، فموجات الإلحاد والعلمنة، وفضاء الرقمية الواسع والمتوسع، والمتخفي وراء الشاشات بالأسماء المستعارة والحسابات الوهمية، يُغري بظهور نوازع الشر في الإنسان.
الأخلاق الرقمية
من سمات الرقمية “الخصوصية” وهي مجال يختفي الكثير من خلاله للنفاذ للآخرين وابتزازهم، كما أن طرح معلومات تبدد غيوم الخصوصية، يجعل الشخص هدفاً سهلاً لأي عملية ابتزاز، ويُغري بتصيد ذوي الخصوصيات المكشوفة، خاصة أن الإنترنت ذات ذاكرة قوية تكاد لا تنسى، وتتميز بقدرة استرجاعية مذهلة للمعلومات، كما أن الحدود القانونية والتشريعية لحماية الخصوصية أقل تقدماً من الجريمة المتصاعدة.
الرقمية كما يشير البعض “تسمح للناس بالقول والقيام بأشياء في الفضاء الإلكتروني لن يقولوها أو يفعلوها عادة في العالم وجهاً لوجه”، ومع غياب الاتصال الجسدي المباشر بين الأشخاص، فإن تأثير الأفعال المسيئة غالباً لا تعرف طريقها إلى الجاني، وهو ما يشجعه على التكرار، وفقدان الإحساس بالذنب أو الألم لرؤية سلوكه الشائن، كما أن التحرر من الخوف والمسؤولية يدفع إلى تكرار الجريمة.
غير أن ضغط الجريمة الإلكترونية دفع للبحث عن فضاء أخلاقي يغلف الرقمية، ويقيد نزواتها وشهواتها، فظهرت نقاشات حول ضرورة الأخلاق في الفضاء الرقمي، لكنها كانت أقرب إلى نصائح التنمية البشرية لتحسين السلوك بعيداً عن أي تأثيرات دينية، تحت دعوى ضرورة “حياد التكنولوجيا”، والاكتفاء بخلق حالة توعوية بكيفية استخدام الوسيط الرقمي لتحسين الحياة، أو الحديث عن “الأخلاقيات الرقمية”؛ نظراً لأن البناء القانوني لا يستطيع مواكبة التطورات الرقمية، وأمام تلك الفجوة تنفذ الجريمة.
لكن حضور الضمير والرقابة الذاتية في العصر الرقمي يفرض أن يمتلك الفرد معيارية داخلية لتحديد الصواب والخطأ، تكون من خارج الحيز الإنساني، أي أنها قادمة من فضاء آخر، هو الدين الذي يحدد ماهية الصواب والخطأ والخير والشر، بحيث يتقاسم أكبر قدر من البشر تلك المعيارية ليصبح الإنسان رقيباً على نفسه قبل أي رقابة سلطوية من الخارج.
ورغم تلك الحاجة المُلحة للدين في بناء الضمير، ليُلجم الجموح وطفرات الشر الإنساني، إلا أن غالبية الرؤى المتداولة في المجتمع الغربي لا تنتبه إلى دور الدين في البناء الضميري، وتنصح -كبديل عن ذلك- بتعليم أخلاقيات الرقمية منذ الصغر وفي المراحل التعليمية الأولى، وتنميتها مع الصعود التعليمي، لتصبح الأخلاقيات ملازمة للرقمية، لكن هؤلاء يتناسون أن الضمير لا يمكن الكشف عن وجوده من خلال أشعة الرنين المغناطيسي، فهو ليس شبكة من الأسلاك، ولكنه شيء غير مادي، فهو “ذاكرة من الداخل توجه الإنسان، وشعور داخلي بالصواب والخطأ، والفضيلة والرذيلة، كُتب في قلوبنا منذ خلقنا”؛ أي أنه صوت الفطرة السوية.
الحقائق المعاصرة تؤكد أن المادية ليست الأسلوب الأكثر منطقية في التعامل مع العالم، ومع الرقمية على وجه الخصوص، كما أن العقل وحده ليس بكاف لخلق الرقابة الذاتية على السلوك الإنساني، فالمبرمجون المنحرفون الذين يمارسون الابتزاز الإلكتروني والنصب، من أكثر الناس ذكاء وعلماً، لكن أخلاقهم متردية، وضمائرهم متعطلة ومُلغاة، والضمير هو أحد تجليات الإيمان الراسخ بالغيب، وصاحب الضمير عندما يتخفى، يوقن أن هناك قوى غيبية تنظر إليه، وتراقبه ظاهراً وباطناً، ولا يخفى عليها شيء من نيته وسلوكه.
والحقيقة أن الضمير قد يكون مستحيلاً في الفضاء الرقمي في ظل غياب الأخلاق، والأخلاق محدودة التأثير في غياب الدين، والدين لن يكون فعالاً وضابطاً للسلوك مع إهدار الإيمان بالغيب، ومن هنا فمقام الألوهية والإنسانية متلازمان في الغيب والشهادة، وفي الواقع وفي العالم الافتراضي.
ويمكن تلمس تماثل بين الطغيان الرقمي، والطغيان الفرعوني، في قوله تعالى في سورة “الفجر”: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ {10} الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ {11} فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ {12} فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) (الفجر).
فماذا يتوقع الإنسان أن يجني من تغييب حضور الإله، وضرب مرتكزات الاعتقاد، والتشويش عليها، وإضعاف تأثيرها وحضورها في الحياة! وهنا نستحضر مقولة المسيح عليه السلام: “من ثمارهم تعرفهم، هل تجتني من الشوك عنباً، أم من الحسك تيناً”.
______________________________________________
(1) برامج الفدية: نوع من البرامج الضارة التي تم تصميمها لحظر الوصول إلى الملفات، حتى دفع مبلغ من المال.