يتساءل البعض عن الكوارث الطبيعية من زلازل وبراكين وفيضانات وأعاصير متى تكون عقوبة من الله؟ ومتى تكون ابتلاء وتمحيصاً؟ وكيف نعرف أن ما حدث هو عقوبة أم ابتلاء؟
ونجيب عن ذلك فنقول:
أولاً: هذه الأحداث الكونية من زلازل وبراكين وفيضانات وأعاصير، في الجملة هي آيات دالة على عظيم قدرة الله، وهي من مظاهر تربية الله تعالى لعباده، وربطهم بأسمائه وصفاته، وتُعَلِّقُهم بالله عز وجل؛ ولذا قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) (الإسراء: 59).
ومن وجه آخر، فإنها تُرِي الإنسانَ ضعفَه، وتُلجئه إلجاء إلى ربه، لعموم قوله تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ. فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 42، 43)، وقد ذكر هذا النص الكريم سببين لعدم تضرع الناس ولجوئهم إلى الله تعالى؛ ليكشف ما بهم من ضُر ويرفع ما بهم من بأساء:
1- قسوة في القلوب.
2- تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم.
ومع خالص دعائنا أن يرفع الله تعالى البلاء عن إخواننا في الله تعالى، الذين نزل بهم من هذه الكوارث هذه الأيام، وأن يتقبل من لقي منهم ربه مؤمناً به في عداد الشهداء لحديث الصحيحين: «صَاحِبُ الْهَدَمِ شَهِيدٌ»(1)، وأن يُداوي جرحاهم، وأن يشفيهم ويعافيهم، ويتولى بعنايته ورعايته من فقدوا عائلهم.
كيف نفرق بين العقوبة والابتلاء؟
هناك 8 فروق بين الابتلاء والعقوبة من الله للإنسان، وبيانها على النحو التالي:
الأول: من حيث زمن الوقوع:
فإن الابتلاء يكون في الدنيا التي هي دار الابتلاء، وأما العقاب فإنه يكون في الدار الدنيا وفي الدار الوسطى (البرزخ أو القبور) وفي الآخرة.
ومن الآيات الشاهدة على ذلك، أعني وقوع العقاب في الدنيا والآخرة، وما بينهما من البرزخ، قوله تعالى عن جزاء من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة: 85)، وقوله تعالى حكاية عن فرعون: (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ. فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ. وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ. وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (القصص: 39-42).
وعن وقوع العقاب في الدار الوسطى (القبور)، قال تعالى: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) (غافر: 46).
الثاني: من حيث السبب والباعث:
فإن الابتلاء يكون لاختبار حال الإنسان، أما العقاب فلا يكون إلا جزاء على الذنب.
فالبلاء يكون اختباراً لحال الإنسان؛ لقوله سبحانه: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: 2)، وقوله عز وجل: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الكهف: 7).
أما العقاب فلا يكون إلا جزاءً على الذنب، فعَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لاَ يُصِيبُ عَبْدًا نَكْبَةٌ فَمَا فَوْقَهَا أَوْ دُونَهَا إِلاَّ بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، وَقَرَأَ: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى: 30)(2)، وعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَا اخْتَلَجَ عِرْقٌ وَلَا عَيْنٌ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ»(3).
ومن صور العقاب على الذنوب: زوال النعم، ونزول العذاب والدمار، فالمعاصي تزيل النعم، وقد أنشد أبو الحسن الكندي قوله:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
فزوال النعم يكون عقاباً، ومن الأمثلة على ذلك في القرآن الكريم:
1- صاحب الجنة المغرور في سورة «الكهف» كان جزاء غروره ما قصه علينا القرآن: (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا) (الكهف).
2- مثل القرية الآمنة المستقرة الرغدة بالإيمان، فلما بدلوا نعمة الله كفراً زال عنهم رغد العيش، ونعمة الأمان: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (النحل: 112).
الثالث: كل عقوبة بلاء وليس كل بلاء عقوبة:
لقد سمَّى الله تعالى العقاب الذي أنزله بأصحاب الجنة سماه الله تعالى بلاء، فقال سبحانه: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ. وَلَا يَسْتَثْنُونَ. فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (القلم: 17-20)، فما نزل بهم كان عقوبة على حرمانهم الفقراء.
وليس كل بلاء عقوبة بدليل أن الضر الذي نزل بأيوب عليه السلام لم يكن عقاباً، وإلا فما الذنب الذي اقترفه، فدون خرط القتاد إثبات ذلك حتى يُقال: إن هذا الضر كان عقوبة، فضلاً عن قيله؟!
قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ) (الأنبياء: 83-84).
الرابع: الابتلاء عام للمكلفين (الأنبياء ومن دونهم):
فالابتلاء لا يسلم منه أحد من المكلفين، فهو يقع بالأنبياء والصالحين، كما في الحديث عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «أشَدُّ النّاسِ بَلاءً الأَنْبِياءُ ثمَّ الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ يُبْتَلى الرَّجُلُ على حَسَبِ دِينِهِ فإِنْ كانَ فِي دِينِهِ صُلْباً اشْتَدَّ بَلاؤُهُ وإنْ كانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ على قَدْرِ دِينِهِ فَما يَبْرَحُ البَلاءُ بالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأَرْضِ وَمَا عليهِ خَطِيئَةٌ»(4).
أما العقاب، فإنه لا ينزل بأهل الذنوب والمعاصي فحسب؛ لقوله تعالى: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت: 40).
الخامس: الابتلاء قرينة محبة الله تعالى للعبد:
فعن أنسٍ رضي الله عنه، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مَع عِظَمِ البَلاء، وإنَّ الله تعالى إذا أحبَّ قوماً ابْتَلاهُمْ، فَمنْ رَضِيَ فلَهُ الرِّضا، ومَنْ سَخِطَ فله السخَطُ»(5).
بينما يكون العقاب قرين غضب الله تعالى؛ لقوله سبحانه: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ) (الزخرف).
السادس: الابتلاء تارة يكون بالخير وتارة يكون بالشر ويكون بما يُحب المرء وبما لا يُحب:
لقوله تعالى: (وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35)، وقال تعالى: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الأعراف: 168)، في التفسير: أي اختبرناهم بالخصب والعافية، والجدب الشديد، والخصب والعافية والنماء أمر محبوب للنفوس، بينما الجدب والقحط تنبو عنه النفوس.
السابع: الابتلاء يكون لرفع الدرجات.. والعقاب يكون تكفيراً للسيئات:
نعم، الابتلاء يكون لرفع الدرجات؛ ودليله في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الرجُلَ لَيكونُ له عندَ الله المنزِلَةُ، فما يَبْلُغها بِعَمَلٍ، فما يَزالُ يَبْتَليهِ بما يَكْرَهُ حتّى يُبْلِغَهُ إيَّاها»(6).
أما كون العقوبة تكفيراً للسيئات، فدليله قول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) (الشورى 30).
الثامن: في أثر كل من البلاء والعقاب على كل من المؤمن وغيره:
فالمؤمن الصالح يعقل ويتفكر، ويحاسب نفسه ويراجع ربه، ويعلق قلبه بالله تعالى، فهو وحده كاشف الضر لعقيدته الصحيحة في الله (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأنعام: 17)، (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (يونس: 107).
أما غير المؤمن فإنه لا يحاسب نفسه، ولا يراجع ربه، ولا يدري فيما أصيب، ولا فيما عوفي، وما الذي يتوجب عليه في الحالين، ففي شعب الإيمان للبيهقي عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ عَلَى صَدِيقٍ لَهُ نَعُودُهُ فَقَالَ: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا ابْتَلَى عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَلَاءِ ثُمَّ عَافَاهُ كَانَ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى، وَمُسْتَعْتَبًا فِيمَا بَقِيَ، وَإِنَّ الْفَاجِرَ إِذَا أَصَابَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَلَاءِ ثُمَّ عَافَاهُ كَانَ كَالْبَعِيرِ عَقَلَهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَطْلَقُوهُ، لَا يَدْرِي فِيمَا عَقَلُوهُ، وَلَا فِيمَا أَطْلَقُوهُ»(7).
ويشير إلى ذلك الحديث الصحيح: «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَالْخَامَةِ مِنَ الزَّرْعِ، تُفَيِّئُهَا الرِّيحُ مَرَّةً، وَتَعْدِلُهَا مَرَّةً، وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ كَالأرْزَةِ، لا تَزَالُ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً» (متفق عليه).
_____________________________
(1) البخاري (2674) ومسلم (1914).
(2) حكم الألباني: (حديث حسن) صحيح الجامع حديث رقم (7732).
(3) صحيح الجامع، رقم (5521).
(4) صحيح الجامع، رقم (992).
(5) صحيح الترغيب والترهيب (3/ 331).
(6) صحيح الترغيب والترهيب (3/ 331).
(7) شعب الإيمان (12/ 312).
(*) من علماء الأزهر.