لعل مشهد ذلك الرجل الذي قضى ما يزيد على 100 ساعة تحت الأنقاض وهو يرتجف بعنف، وقد أصيبت عيناه، وعلى الرغم من ذلك يتلو آيات من سورة «البقرة»؛ يوضح أسرع وأسهل طريق وأكثرها أمناً لتجاوز الصدمة وهو «ذكر الله»، فأمام كارثة بحجم زلزال بقوة 7.8 درجات لا طريق لطمأنة القلب إلا بالاتصال بخالق هذا الكون الذي بيده وحده الموت والحياة.
ذكر الله الذي يمنح القلب الطمأنينة في أعنف اللحظات وأشدها ظلاماً هو أيضاً الذي يمنح الناجين وأسر الضحايا ممن يعانون ألم الفقد (فقد الأحبة وفقد المأوى وفقد الممتلكات وفقد الأمان) السكينة والمواساة، ولا يمكن تقبل مثل هذه الصدمة أو تجاوزها لاحقاً إلا بهذه الركيزة الأساسية «ذكر الله»، ومن ثم الاتصال به واستمداد القوة منه سبحانه.
قبول الحزن
الشعور بالحزن العميق والألم العنيف الذي يفطر القلب والرغبة الجارفة في البكاء كل هذه أمور طبيعية بعد أي صدمة يتعرض لها الإنسان، فما بالنا بكارثة جماعية فجائية على مثل هذا النحو؟! وعندما فقد النبي صلى الله عليه وسلم طفله الصغير إبراهيم، سمح لهذا الحزن أن يتحرر في صورة دموع، وحكى عن حزنه بالكلمات: «إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» (متفق عليه).
التعبير عن الحزن بالكلام والدموع يقوم بعمل تفريغ صحي لانفعالات حادة يعيشها الإنسان بعد الصدمات، أما الكلام السام الذي ينفثه الشيطان كاعتراض على قضاء الله وقدره وكلمات الشرك والإلحاد، فهي التي تفقد الإنسان اتزانه النفسي وتلقيه في هوة بلا قرار؛ (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) (الحج: 31).
اضطراب ما بعد الصدمة
على أن الحزن إذا تجاوز حداً معيناً، وتجاوز الأمر أكثر من شهر ولا يزال الإنسان غير قادر على النوم.. تطارده الكوابيس.. يشعر بالفزع والهلع.. أو يعاني من عدم اتزان وتشوش أو غير قادر على القيام بأنشطته الحياتية الأساسية فلا بد من مراجعة متخصص في العلاج النفسي ليساعده على تجاوز هذا الاضطراب الذي قد يصيب البعض جراء التعرض للصدمة، وسواء كان العلاج النفسي بطريقة العلاج المعرفي السلوكي، أو عن طريق الأدوية المضادة للاكتئاب، فإن الحاجة ماسة لوجود بيئة داعمة للمصاب، فوجود من يسأل ومن يهتم ومن يستمع وينصت ومن يشجع على عودة المصاب لتفاصيل الحياة اليومية أمر بالغ الأهمية لتعافي المصابين.
درجات الصدمة
على أن سؤالاً، مثل: لماذا يعاني بعض الأشخاص بصورة أكثر حدة عن الآخرين؟ سؤال بالغ الأهمية.
قد يكون السبب في ذلك المرحلة العمرية للشخص؛ فالطفل الذي لم يكتمل نضجه النفسي بعد يكون أكثر تأثراً.
أيضاً الشخص الذي كان يعاني من قبل الصدمة من اضطراب نفسي ما كالاكتئاب أو القلق يعاني بصورة أشد، كما أن القوى النفسية للناس تختلف كما القوى الجسدية، فيختلف البشر في مدى الصلابة أو الهشاشة النفسية أمام صدمة ما، وعلى الرغم من ذلك، فهناك الكثير ممن يبدو عليهم ملامح الصمود النفسي وفي الحقيقة يعيشون حالة إنكار لما يشعرون به، ففي الوقت الذي يقولون كلمات بمعنى «أنا بخير»، يشعرون عكس ذلك، ولا بد من مساعدتهم على تفريغ مشاعرهم الانفعالية.
أيضاً، يختلف الناس بمقدار تداخلهم مع الصدمة، فكلما اقترب الإنسان من مركز الصدمة كانت معاناته أشد، فالناجي الذي أصيب بعاهة جسدية وفقد عائلته وممتلكاته لا يمكن مقارنة معاناته مع من شاهد مشاهد الدمار عن بُعد.
القوة الإيمانية
لكن الحقيقة، أيضاً، أن ما يسبب اضطراب ما بعد الصدمة ليس فقط قوة الصدمة، ولكن تقنية قراءتها ومن ثم مدى الشعور بوقعها على النفس، فكلما تمتع الإنسان بقوة إيمانية عالية ويقينية استطاع قراءة الفاجعة من منظور إيماني كابتلاء وقدر عليه، القبول والتسليم به، واستطاع تفعيل قيمة الصبر في مواجهة الفاجعة، والصبر يمنح الرجاء؛ أفلا يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب؟
القوة الإيمانية تمنح الأمل في أقسى لحظات اليأس، فالعزيز الذي فقده الإنسان لم يتحول لعدم، وإنما انتقل لعالم آخر له قوانين مختلفة، يستطيع من ابتلى بالفقد أن يتصل به من خلال الدعاء.
القوة الإيمانية تدفع صاحبها دفعاً للصلاة، وهنا يستطيع تفريغ كل انفعالاته المكبوتة من خلال حركات الصلاة، ويشكو بثه وحزنه إلى الله.. يبكي وهو ساجد.. يدعو أن يرزقه الله الصبر الجميل وهو على يقين أنه سبحانه سيستجيب؛ (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ) (النمل: 62).
التحفيز الإيماني
على أن هذه القوة الإيمانية لا بد من زراعتها وتعهدها في مرحلة سابقة لوقوع الصدمات، حتى إذا تعرض الإنسان لصدمة ما صغيرة أو كبيرة فردية كانت أو جماعية استطاع الصمود في مواجهتها، ووقوع حادث ضخم بحجم هذا الزلزال المروع فرصة ينبغي استثمارها للتحفيز الإيماني، وربط النفس الإنسانية بالخالق عز وجل، وتعميق معاني الإيمان بالقدر خيره وشره، ونشر فلسفة الابتلاء والرد على الشبهات التي يثيرها الملحدون والمتشككون عند وقوع مثل هذه الكوارث والنكبات، والاهتمام بشكل خاص بترسيخ هذه الأفكار في عقول الأطفال والناشئة، ومنحهم تصوراً نظرياً عما ينبغي فعله عند التعرض لشدة أو صدمة، مع ربط ذلك بابتلاء الأنبياء والصالحين، وكيف تعاملوا مع الصدمات التي تعرضوا لها، وأيضاً بالثناء على الشباب والأطفال الذين تعرضوا لكارثة الزلزال فصمدوا، وكانت ألسنتهم تلهج بالذكر والحمد والتكبير وهم يخرجون من تحت الأنقاض، فكانوا دليلاً حياً على قوة الإيمان ومدى قدرته على عبور الإنسان أشد وأقسى الصدمات.