تواجه حكومة بنيامين نتنياهو القائمة على تحالف حزب الليكود وقوى اليمين الديني المتشدد تحدياً كبيراً لمصداقيتها في ظل تواصل عمليات المقاومة الفردية التي باتت تجبي أثماناً كبيرة رغم الاحتياطات الأمنية والإجراءات العقابية الجماعية التي تتخذها في أعقاب كل عملية.
فقد جاءت عملية الدهس في القدس المحتلة التي نفذها شاب من بلدة «العيسوية»، التي قتل وجرح فيها 8 مستوطنين كرد على المجزرة التي نفذها جيش الاحتلال في مخيم «عقبة جبر»، قضاء أريحا.
وجاءت عملية إطلاق النار في مستوطنة «النبي يعقوب» التي قتل فيها 8 مستوطنين وجرح 15 آخرين رداً على المجزرة التي نفذها الاحتلال في مخيم جنين.
أي يتضح بما لا يقبل الشك أن إستراتيجية الحكومة الصهيونية ليس فقط لم تحقق هدفها في وقف عمليات المقاومة، بل أن هذه الإستراتيجية تصبح بحد ذاتها مسوغاً لتوفير بيئة تساعد على تنفيذ مزيد من العمليات.
وقد تبين بشكل واضح أن هناك علاقة طردية بين زيادة مستويات القمع والجرائم التي يرتكبها الاحتلال، وتعاظم الدافعية لدى الشباب الفلسطيني للانضمام إلى دائرة الفعل المقاوم.
إلى جانب ذلك، فإن جميع القرارات والإجراءات الأمنية التي اتخذتها الحكومة «الإسرائيلية» لن تؤثر من ناحية عملية على نجاح عمليات المقاومة في المستقبل، فجميع عمليات المقاومة التي نفذت مؤخراً عمليات فردية؛ حيث من الصعب جداً على مخابرات الاحتلال أن تحصل على معلومات مسبقة يمكن أن تساعد على إحباطها قبل تنفيذها، بخلاف العمليات التي تنفذها خلايا تنتمي إلى تنظيمات.
فضلاً عن أن أكثر العمليات قوة نفذت مؤخراً في منطقة القدس التي تخضع لسيطرة «إسرائيل» المباشرة، وفي ظل حالة استنفار أمني كبير؛ مما يعني أن تنفيذ المزيد من عمليات المقاومة يرتبط بمستوى الدافعية لدى الشباب الفلسطيني أكثر مما يرتبط بإجراءات «إسرائيل» الأمنية.
لكن نظراً إلى طابع المنطلقات المتطرفة والفاشية التي توجه هذه الحكومة، فإن قادتها لن يستخلصوا العبر بحيث يتبنون إستراتيجية مغايرة، حتى عندما يتضح بشكل مؤكد أن القمع يوسع من بيئة التصعيد ويعزز الدافعية لدى الشباب الفلسطيني لتنفيذ عمليات.
وقد وصل سعار قادة هذه الحكومة إلى حد أن بعضهم قد أقدم على خطوات باتت مثار سخرية لدى وسائل الإعلام والنخب الصهيونية ذاتها.
فقد أعلن وزير الأمن الوطني الصهيوني إيتمار بن غفير عن شن حملة عسكرية أطلق عليها «السور الواقي» في القدس الشرقية، مساء يوم الجمعة الماضي، بعد ساعة فقط على عملية الدهس؛ دون أن يتشاور مع رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو والمجلس الوزاري المصغر لشؤون الأمن، ودون الرجوع إلى قيادة الشرطة التي يعد مسؤولاً عنها وجيش ومخابرات الاحتلال.
وقد بات يطلق على بن غفير «وزير التيك توك»، في إشارة إلى سرعة إصداره التصريحات والقرارات عبر مواقع التواصل دون التنسيق مع زملائه في الحكومة أو الأجهزة الأمنية المسؤول عنها.
لكن على الرغم من ذلك، فإنه يتوجب على الفلسطينيين عدم الاستخفاف ببن غفير وما يمكن أن يصدر عنه؛ حيث إنه على الرغم من الطريقة البهلوانية التي يتعامل بها كوزير للأمن مما جعل تطبيق قراراته أمراً مكلفاً للكيان الصهيوني ومحرجاً للحكومة التي يشارك فيها؛ فإنه يتوجب عدم تجاهل حقيقة أنه بدون بن غفير فإن نتنياهو سيفقد حكومته.
ففي حال لم يتم استرضاء بن غفير، فإنه قد يهدد بانسحاب حركته «المنعة اليهودية» من الحكومة؛ مما يعني أن تفقد الحكومة أغلبيتها البرلمانية فتسقط فوراً، وهذا ما لا يمكن أن يسلم به نتنياهو، الذي يراهن على الحكومة الحالية في تمرير مشاريع قوانين تعفيه من المحاكمة في قضايا الفساد الخطيرة التي يحاكم فيها حالياً.
لذا، فإن نتنياهو سيحاول تطبيق بعض ما يدعو له بن غفير في حملة «السور الواقي»، التي تتضمن تشديد الخناق على الفلسطينيين في القدس عبر شن عمليات اعتقال واسعة، تدمير منازل، فرض قيود على حرية الحركة، محاربة ما يعرف بـ«التحريض»، سيما داخل المساجد، إلى جانب ذلك إلزام الشرطة بالعمل على إجبار المقدسيين على دفع الضرائب لسلطات الاحتلال، وتحديداً ضريبة الداخل.
وسبق أن أقدم بن غفير بالفعل على خطوات أخرى ذات طاقة تفجير عالية تتمثل في اتخاذ قرارات تهدف إلى التضييق على الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال؛ حيث تعرضت الأسيرات الفلسطينيات إلى عمليات قمع وحشية دفعتهن إلى إشعال النار في الزنازين؛ فضلاً عن قراره وقف تزويد الأسرى في سجنين كبيرين بالخبز، بحجة أن الحصول على الخبز «رفاهية» لا يستحقها هؤلاء الأسرى.
بناء على رغبة بن غفير، سارع ممثلو اليمين الديني سن قانون يسمح بمصادرة حقوق المواطنة والإقامة من كل فلسطيني من سكان القدس والداخل الفلسطيني في حال شارك في عملية للمقاومة، إلى جانب ذلك، فإن الحكومة الصهيونية تبحث حالياً عن توفير مخارج قانونية تسمح بطرد عوائل منفذي العمليات من الضفة الغربية إلى قطاع غزة.
إن قوى اليمين الديني المتطرف تدفع حكومة نتنياهو نحو ردود كبيرة وغير متناسبة على عمليات المقاومة ليس بفعل توجهاتها الأيديولوجية فقط؛ بل أيضاً تحت وطأة اعتباراتها السياسية؛ حيث إن قواعدها الانتخابية تطالبها بأن تطبق ما تعهدت به خلال حملاتها الانتخابية، سيما على صعيد مواجهة عمليات المقاومة.
من هنا، فإنه يتوجب على الفلسطينيين إعادة النظر في مقاربتهم الحالية للصراع، فمن الواضح أن العمليات الفردية لا يمكن أن تكون بديلاً عن التوافق على برنامج مقاومة شامل يتوافق عليه جميع الفلسطينيين يضمن تحقيق العمل المقاوم إنجازات سياسية، أو على الأقل يمس بقدرة الصهاينة على تكريس الأمر الواقع على الأرض.
صحيح أن العمليات الفردية تعكس تواصل روح المقاومة وتثبت للمحتل أن القمع لن يفضي إلى تكريس وجوده، لكن في المقابل، فإنه لا يمكن تجاهل حقيقة أن المحتل يستغل هذه العمليات في تنفيذ مخططاته، سيما على صعيد الاستيطان والتهويد، ومواصلة إحكام السيطرة على «الأقصى» وغيرها من منجزات.
صحيح أن هناك عوائق كثيرة تعترض التوافق على برنامج فلسطيني مشترك، سيما دور سلطة عباس السلبي، لكن هذا لا يحول دون تكثيف الجهود حتى تتكلل بالنجاح، لأن تحقيق هذا الهدف أمر الساعة.