في خضم الأحداث العظام -وخاصة حدث الزلزال الأخير- التي تمر بالأمة الإسلامية؛ أفراداً وشعوباً، تجد الجميع يرصد بعيون مختلفة هذه الأحداث، فالطبيب يرصدها من ناحية الجسد وعلله وخسائره وصحته، والمهندس يرصدها من حيث هشاشة البناء وضعفه ومواده واستخدامه وتصميمه، والجيولوجي يرصدها من حيث طبقات الأرض وسبب الهبوط والزلزال، والسياسي يرصدها من حيث الخسائر والمكاسب السياسية لنفسه أو لحزبه، والاقتصادي من حيث الأثر المادي ومؤشرات انخفاض البورصة، والدولة ترصدها من حيث الاختبار الحقيقي في قوة الموارد والإمكانات والعدة وربما العلاقات الداخلية والخارجية في تجاوز هذه الأحداث وتقليل خسائرها، وحتى الداعية والخطيب فإنه يرصدها من حيث القراءة الشرعية لها واستخلاص الدروس والعبر من خلالها، وتذكير الناس بها.
المهم أن الحدث واحد والقراءة مختلفة، لكن هل هذه القراءة المختلفة المتنوعة كافية مع الحدث؟! هل الدراسات التي تقدَّم تستطيع أن تقف أمام هذه السنن أو تدفعها، أو حتى تقلل من حدتها؟! في الحقيقة، ما هي إلا تحليلات ودراسات ترصد فقط النتائج والآثار والمتغيرات، ولا تستطيع أن توقف القدرة الإلهية والسنن الكونية، فالعجز حاضر قائم في سماء «كن فيكون»؛ لهذا وجب على الجميع أن يخضع دراسته في البداية والنهاية إلى أهم دراسة؛ دراسة الشارِع -سبحانه- وتعاليمه، والقادر وتوجيهاته الذي خلق هذه السنن وأقام هذه الأحداث لحِكَم سبق ذكرها وتبارى الكثير من جميع الفئات على إبرازها.
على إثر هذه الكلمات، تأتي حوالة بريدية من عبدالله بن حوالة رضي الله عنه للأمة الإسلامية، تضع لنا رؤية مهمة جاءت في قراءة مختلفة للسنن الكونية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أبو داود من حديث ابْن زُغْبٍ الْإِيَادِيَّ قَالَ: نَزَلَ عَلَيَّ عَبْدُاللَّهِ بْنُ حَوَالَةَ الْأَزْدِيُّ، فَقَالَ لِي: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَغْنَمَ عَلَى أَقْدَامِنَا فَرَجَعْنَا، فَلَمْ نَغْنَمْ شَيْئاً، وَعَرَفَ الْجَهْدَ فِي وُجُوهِنَا فَقَامَ فِينَا، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ، فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ»، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى رَأْسِي، أَوْ قَالَ: عَلَى هَامَتِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا ابْنَ حَوَالَةَ، إِذَا رَأَيْتَ الْخِلَافَةَ قَدْ نَزَلَتْ أَرْضَ الْمُقَدَّسَةِ فَقَدْ دَنَتِ الزَّلَازِلُ وَالْبَلَابِلُ وَالْأُمُورُ الْعِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنَ النَّاسِ مِنْ يَدِي هَذِهِ مِنْ رَأْسِكَ»، وقد جاء هذا الحديث يحمل مضموناً عظيماً وحوالة مليئة بالتوجيهات النبوية.
مضمون الحوالة:
أولاً: من رحم حلول السنن الكونية تأتي المنافع للناس:
الحديث أشار إلى سُنة من السنن التي تجري بين الخلق، ويترتب على وجودها نفع أحياناً، فسُنة التدافع التي جاءت في القرآن، كما قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً) (الحج: 40) هي في الأصل قد وضعت للحفاظ على الناس ودينهم وديارهم ومساجدهم، قد تحمل نعماً للعباد؛ مادية ومعنوية، أما المادية فغنيمة تُساق، وأرض تحرز إن وجدت، وأما المعنوية فتجديد علاقة مع الله، وتثبيت قلب، ورؤية أجر.. وغير ذلك.
نعم، رجعوا دون منافع مادية، أو بخسارة ميدانية دون غنيمة وأرض، لكن من الأكيد أنهم رجعوا بلُحمة وفهم وصبر وأجر لا يضيع أبداً.
إن الهزات الأرضية والأعاصير والحروب المدمرة التي اجتاحت بلاداً ودمرت أوطاناً (كاليابان وألمانيا مثلاً وغيرهما) قد قوَّت عودها، وأخرجت شعوبها إلى تفكير خارج النمط المعتاد، وإلى إبداع أورثته الحاجة وإلى تقدم تجاوز المعوقات، وإلى فهم لحقيقة الصراع والبقاء، وكل هذه منافع خرجت من رحم السنن الكونية وقسوتها؛ فأفرزت نموذجاً فريداً في العمل وبناء الحضارة والتقدم الدنيوي، لكن دون العقل الجمعي ونزاهة الجميع لن يتحقق ذلك.
ثانياً: قد نتعب ولا نتقدم لكننا لا ننكسر ولا نتوقف:
ما بين بحث عن غنيمة ونصر، أو إحراز سبق وتقدم، سيظل «الجهد والفاقة» عنوان المرحلة فينا، وربما خاب سعينا، أو قلت مؤنتنا، أو حلت خسائر بيننا، أو تضافرت المعوقات على سلم بنائنا، لكننا لا ننزل عن ثوابتنا، ولا تكون هذه الهزات التي تحل في حياتنا إبعاداً عن دربنا، أو كسراً لعزيمتنا، أو انقلاباً على جمال تكويننا، أو إيقافاً لمسيرتنا.
تظل طبيعة القراءة المختلفة للسنن الكونية فيصلاً في تقوية الأمة في جولاتها مع هذه السنن، بين المدرك لطبيعة وجودها، المتعامل معها، المتجاوز لشدتها، المستدرك للمسير مع حلولها، ابن حوالة وإخوانه لم يغنموا، وتعبوا، لكنهم لم ينكسروا ولم يخسروا أثمن ما يمتلكون.
إن شعبا كشعب غزة هاشم قد أجهده ما حل ويحل به كل يوم، ربما يبنون ويشيدون اليوم بعد غارات الأمس، وهم مدركون أن قاذفات وغارات ستهدم ذلك غداً، ومع هذا فلم تقف يوماً سواعدهم عن عجلة البناء والتشييد.
ثالثاً: كلمة السر في الاتكال الخالص والتجرد الصافي:
التعامل مع الأحداث؛ إيجاباً أو سلباً، ورؤية بعض الهزائم النفسية، أو التعلق بالدنيا، أمر يجب معه إخلاص الاتكال إلى الله والتجرد الصافي له، لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ليخطب؛ فوضع الجميع في نصابه المحدد، بمن في ذلك نفسه الشريفة، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْهُمْ إِلَيَّ، فَأَضْعُفَ عَنْهُمْ، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَيَعْجِزُوا عَنْهَا، وَلَا تَكِلْهُمْ إِلَى النَّاسِ فَيَسْتَأْثِرُوا عَلَيْهِمْ».
وهذه من متطلبات قراءة السنن الكونية، بل سبب في حلولها، رجوع التوكل عليه سبحانه، والتجرد من كل فانٍ بين يديه، فالرسول قرن نفسه بضعفه، وقرن الأنفس بالعجز، وقرن الناس بالأثرة؛ فيختارون الجيد لأنفسهم والرديء لغيرهم، فماذا بقي إذا حل بلاء أو تثاقل حمل؟ لم يبق إلا إعادة الناس إلى بوصلة التوكل عليه، وجميل الرجوع إليه.
رابعاً: ربط بين زلازل الأرض وزلازل النفس والقلب:
جمع النبي صلى الله عليه وسلم بينها في قوله: «الزلازل والبلابل»، والبلابل هي الهموم والأحزان، وكأنَّ هناك اجتماعاً في الصورة واختلافاً في الأثر؛ فالزلازل واحدة، ولكن النتيجة مختلفة، فالهزات الأرضية قد تُحدث تشققاً وتصدعاً، وانهياراً في البنية التحية، وهدماً لبناء متكامل، وكذلك زلازل النفوس والصدور قد تُحدث تشققاً في القلب، وخواراً في العزيمة، وهزيمة في بناء الشخصية، وضياعاً لوقت طويل قُدِّم في نهضة النفس وتبييض القلب.
ولكن، يبقى أن البناء المادي أيسر من البناء المعنوي، وأن السعادة لا تكون حاضرة لكل ما يقدم بين يديك إلا إذا استشعرت بها وبدأت جذوتها من داخلك، أولاً فاحذر الزلازل النفسية والقلبية أن تهزمك، وأن تخور قوتك؛ فزلزال النفس أقوى من زلزال الأرض.
خامساً: التسرية بخفيف ما تقدم عن عظيم ما تأخر:
من أهم ما يخفف به على الإنسان التسرية، حيث إن ما رأيته أخف بكثير مما غاب عنك وادخر لهول القيامة ودنوها، كما جالت بنا الآيات في بيانها، وخاطبنا النبي صلى الله عليه وسلم بعظيم أمرها، أمر مهم في قراءة السنن ما حدث مع قوته ليس شيئاً مما لم يحدث مع عنفوانه، كان الناس يفهمون هذا فيتجاوزن به ما يحل بهم من سنن الله عليهم، روى البيهقي عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ شُرَيْحاً قَالَ: «إِنِّي لَأُصَابُ بِالْمُصِيبَةِ فَأَحْمَدُ اللهَ عَلَيْهَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ؛ أَحْمَدُهُ إِذْ لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِمَّا هِيَ، وَأَحْمَدُهُ إِذْ رَزَقَنِيَ الصَّبْرَ عَلَيْهَا، وَأَحْمَدُهُ إِذْ وَفَّقَنِي لِلِاسْتِرْجَاعِ لِمَا أَرْجُو فِيهِ مِنَ الثَّوَابِ، وَأَحْمَدُهُ إِذْ لَمْ يَجْعَلْهَا فِي دِينِي».