يجب النظر إلى تدنيس وزير الأمن الوطني الصهيوني “إيتمار بن غفير” للمسجد الأقصى على أنه خطوة تأتي في إطار سعي الحكومة الصهيونية الجديدة لحسم الصراع على “الأقصى”؛ فعلى الرغم من أنه سبق لـ”بن غفير” -عندما كان نائباً في الكنيست- أن دنس مراراً “الأقصى”، فإن إقدامه على هذه الخطوة حالياً يضفي شرعية رسمية على تدنيس اليهود للمسجد.
أدركت جماعات الهيكل اليهودية التي تدعو علانية إلى تدشين الهيكل المزعوم على أنقاض المسجد الأقصى الرسالة التي بعث بها “بن غفير” من خلال تدنيسه لـ”الأقصى”، فقدمت له سلسلة من الطلبات التي تمهد لحسم الصراع عليه.
ففي عريضة وقعت عليها، طالبت هذه الحركات بأن يتم السماح لليهود بتدنيس “الأقصى” طوال أيام الأسبوع، بما في ذلك أيام السبت، مع العلم أن اليهود يدنسون المسجد بدءاً من يوم الأحد حتى يوم الخميس.
إلى جانب ذلك، تطالب هذه الحركات بأن يتم التدنيس طوال ساعات النهار، وليس فقط حتى الظهر كما هو حاصل حالياً، في الوقت ذاته، فإن هذه الجماعات تطالب بأن يقتحم اليهود “الأقصى” من جميع بواباته وليس من باب المغاربة فقط كما هو حاصل حالياً، فضلاً عن أن يمنح اليهود الحق في اقتحامه كأفراد وليس في جماعات فقط مع توفير الحد الأقصى من التأمين لهم أثناء الاقتحام.
لكن أخطر ما تطالب به هذه الجماعات يتمثل في أن تعلن الحكومة الصهيونية الجديدة أن المسجد الأقصى يمثل موقعاً دينياً مقدساً لليهود، وأن يتم تدشين مؤسسة يهودية رسمية تشرف على إدارته.
على غرار “الإبراهيمي”
من الواضح أن هذه الخطوات تؤسس لفرض التقاسم الزماني والمكاني بين اليهود والمسلمين في المسجد الأقصى، تماماً كما هو حاصل حالياً في المسجد الإبراهيمي في الخليل.
لكن بخلاف المسجد الإبراهيمي، فإن التيار اليهودي الديني الخلاصي، الذي تنتمي إليه جماعات الهيكل، وحركة “المنعة اليهودية” التي يقودها “بن غفير”، وحركة “الصهيونية الدينية” التي يقودها وزير المالية والاستيطان “بتسلال سموتريش”، يريان وجوب تدمير “الأقصى”؛ فحسب المنطلق العقائدي الخلاصي، فإن ترجل “المخلص المنتظر” الذي سيقود اليهود إلى ريادة العالم يتوقف على اندلاع حرب “يأجوج ومأجوج”، التي ستندلع بعد تدشين الهيكل على أنقاض “الأقصى”.
من هنا، فإنه يتوجب عدم تسليط الأضواء على تدنيس “بن غفير” لـ”الأقصى” كحدث منعزل، بل يجب النظر إليه في إطار السعي الصهيوني لحسم الصراع على المسجد، تماماً كما تحاول الحكومة الحالية حسم الصراع في ساحات المواجهة الأخرى، مثل الصراع على الأرض الفلسطينية من خلال ضم الضفة الغربية عملياً، وحسم الصراع الديموغرافي من خلال تبني سياسات تفضي إلى تهجير الفلسطينيين، وحسم الصراع في مواجهة المقاومة عبر سن قوانين تبيح فرض حكم الإعدام على المقاومين، وتغيير أوامر إطلاق النار بحيث يكون من حق عناصر جيش وشرطة الاحتلال قتل أكبر عدد من الفلسطينيين.
من هنا، فإنه يتوقع على نطاق واسع أن تلجأ “إسرائيل” إلى محاولة تفكيك أي مظلة رسمية عربية وإسلامية داخل “الأقصى”، وتحديداً حق الوصاية الممنوحة للأردن في المسجد؛ فعلى الرغم من أن العلاقة مع الأردن تعد إحدى ركائز الأمن القومي الصهيوني، ومع أن الحكومة الصهيونية الجديدة تعي أن الحفاظ على الوصاية على “الأقصى” يعد مصلحة من الطراز الأول لنظام الحكم في عمَّان، فإن توجهات الأحزاب المشاركة في هذه الحكومة واضحة، وترمي بشكل واضح وصريح إلى طرد الأردن ممثلاً بدائرة الأوقاف الإسلامية في القدس التي تتبع وزارة الأوقاف الأردنية.
السلوك العربي والإسلامي
من الواضح أن أحد أهم العوامل التي تشجع “إسرائيل” على مواصلة هذا النهج يتمثل في السلوك العربي والإسلامي على المستوى الرسمي.
فعلى الرغم من أن الدول العربية والإسلامية، التي تقيم علاقات دبلوماسية وتحافظ على تعاون اقتصادي وأمني مع الكيان الصهيوني، سارعت إلى التنديد بتدنيس “بن غفير” لـ”الأقصى”، فإنها في المقابل لم تبد أي مؤشر على إمكانية توظيف ما لديها من أوراق قوة لردع الصهاينة عن مواصلة مخططاتهم الخطيرة تجاه “الأقصى”.
فمن المؤسف، أنه بعد أقل من أسبوع على تدنيس “بن غفير”، عقدت لجان العمل المنبثقة عن “منتدى النقب”، الذي تشارك فيه “إسرائيل” والولايات المتحدة و4 دول عربية، سلسلة من الاجتماعات لمناقشة بحث سبل تعزيز التعاون الأمني والاستخباري بين الأطراف المشاركة في هذا المنتدى، وكأن شيئاً لم يكن.
إن الدول العربية لديها الكثير من الأوراق التي بالإمكان توظيفها لردع الحكومة الصهيونية عن مواصلة فرض الأمر الواقع في المسجد الأقصى؛ فعلى سبيل المثال، بإمكان الدول العربية التي وقعت على عقود شراء الغاز العربي المنهوب من الصهاينة أن تلوح بورقة التوقف عن احترام هذه العقود، فضلاً عن أن دولاً عربية وقعت على اتفاقات لمساعدة الكيان الصهيوني على تصدير الغاز المنهوب إلى أوروبا.
لكن من أجل إقناع الدول العربية بالإقدام على مثل هذه التحركات، يتوجب على الفلسطينيين أولاً التوافق على برنامج عمل وطني شامل لمواجهة سياسات الحكومة الصهيونية؛ فعلى سبيل المثال، لا يعقل أنه في ظل جرائم الحكومة الصهيونية أن تواصل سلطة محمود عباس التعاون الأمني مع “إسرائيل” تحت أي ظرف وأي مسوغ.
إلى جانب ذلك، يتوجب التأكد من ألا توقف سلطة عباس الخطوات الهادفة إلى محاسبة “إسرائيل” أمام محكمة العدل الدولية، تحديداً في أعقاب سلسلة العقوبات التي فرضتها حكومة “تل أبيب” على الفلسطينيين لردعهم عن مواصلة هذه الخطوات، فالكيان الصهيوني يعي تماماً أن صدور قرار من المحكمة الدولية يصف الوجود الصهيوني في الأراضي المحتلة بأنه “احتلال متواصل” سيترتب عليه الكثير من الخطوات والعقوبات الدولية التي ستفضي إلى عزل هذا الكيان.
إن إستراتيجية حسم الصراع تفرض على الفلسطينيين برنامج مقاومة شاملاً، يتم فيه توحيد كل ساحات النضال الفلسطيني وتكامل أدواتها بشكل فعال، وليس عبر خطوات مجتزأة، مثل ترك الضفة وحدها، أو الاكتفاء بإطلاق صواريخ من غزة، بل فعل مقاوم مستدام يجبي أثماناً باهظة من “إسرائيل” على كل الصعد، برنامج مقاومة لن ينجح فقط في استنزاف “إسرائيل”، بل سيعمل على تجفيف بيئة التطبيع، وسيجبر نظم الحكم العربية على فرملة خطواتها.