يا من حرقت النزاهة في ضمير الإنسان، تُـراك حرقت شيئًا من القرآن؟!
هل تحداك القرآن في أن تأخذ نسخة ورقية منه وتحرقها؟!
هل تحداك هنا في هذا الميدان الذي يحكم عليك بغاية الفشل، ونهاية مطاف الخسران؟!
لا.. أنت تعلم، ولئن كنت لا تعلم تعال أُعَلِّمَك، وأُعْلِمَك.. وأنا أعلم كمّ الموانع التي تمنعك من شرف هذا العلم وذاك التعليم، إنه يتحداك هناك في ساحة الكبار، ساحة التحدي الشريف.
أعني: يتحداك أن تأتي بعشر سور من مثله، أو بسورة من مثله، فلئن كنت ترى نفسك على صواب وأنك تُخْلِص للمبدأ الذي تراه صوابًا فلِمَ لا تقبل التحدي؟!
القرآن ليس كتابًا تتغير قواعده طبقاً لأهواء بشرية، القرآن شريعة ثبتت قواعدها وترسخت قوائمها، لذلك مهما حاولت حتى مع فروعه فلن تنالها لأنها قويَّـة عصيَّـة على الحاقدين الحاسدين.. فما بالك بجذوره؟
وفروعه لا تستعصى عليك فحسب، إنما تستعصى على البشر كلهم من يوم أُنزل القرآن على قلب محمد صلى الله عليه وسلم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولكن، لماذا يستعصي القرآن على البشر؟!
لأنه كلام الله، بل هو كلمة الله الأخيرة إلى عباده، وهو سبحانه تكفل بحفظه؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9).
ستدفعك فكرة ولدت في عقل فاسد أن تقول: أنا أَثْبَتُّ بُطْلان هذا القول لمَّـا حرقت القرآن، فكيف يتعهَّد الله بحفظهِ، وأُقْدِمُ أنا على حرقِه؟!
وبعد نوبة من كركرة في الضحك نقول: هل تظن أن معنى حفظ الله لكتابه هو حفظه من مخبول يقوم بحرق مجموعة من الورق، ويظن أنه حرق القرآن؟!
حقًا، إن من يُـدفع به إلى النفاق من نفسه أو من غيره يمتلك الكثير من الحجج الخائبة، فالمُـخادع بالفطرة يزيغ عن الطريق السويّ دائماً، ويُبْدى سلوكه تَشَعُّب الطُرق في عينيه وقلبه، وإن كانت طرقاً مسدودة لا تصلح إطلاقاً للسير عليها.
إن معنى حفظ الله للقرآن، أيها المعتوه، أن الله عز وجل وهو القادر، وهو القدير، وهو المقتدر، حفظ الذكر وهو القرآن الكريم من أن يُضاف إليه حرف أو ينتقص منه آخر، فلا يعبث به أحد، فلم ولن يستطيع أحد أن يزيد أو أن ينقص فيه أو يُغَيِّر من معانيه، فهو محفوظ بمعجزاته ودلائله، وأحكامه وآدابه، وتعاليمه وتذكيره، حيث حفظه الحافظ الحفيظ سبحانه وتعالى في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم حين أنزله عليه، وحفظه في قلوب المسلمين المتقين، واليوم تجد الملايين من المسلمين يحفظونه ويتلونه غيبًا، وعن ظهر قلب.
هذا القرآن في صدور أناس فرشوا أرواحهم طرقاً لكلماته ومعانيه، وأحكامه وتعاليمه.
فهو ليس ككتابك أو الكتب السابقة التي وكَّل الله للخلق حفظها فحرَّفوها طبقًا لأهوائهم، ولأن القرآن هو الكتاب الأخير لكل العالمين فقد تعهَّد سبحانه بحفظه.
ليس هذا فحسب، وإنما حفظه أيضاً متحديًا أن يأتي أحد بسورة من مثله، الله عز وجل أعلن التحدي منذ ما يربو على الألف وأربعمائة عام، وما زال هذا التحدي قائمًا في أكثر من موضع، إنه يتحداك يقول لك أنت وكل من تستقوي بهم: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) (هود: 13).
ثم إنها الثقة الربانية التي تقلل التحدي من عشر سور إلى سورة واحدة: (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة: 23).
واستمع للآية التي بعقبها وتصرح يقينًا بأنكم لم تفعلوا الآن، ولن تفعلوا بعد ذلك مهما امتدت بكم القرون، ثم تُجلِّي لك عاقبتك: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (البقرة: 24).
هذا القرآن الذي فضحك، وبيَّـن أنك لم تتبعه إصرارًا واستكبارًا.. إصرارًا منك على اتباع شططك وسفهك وأهوائك، فهو يُحدّث محمداً صلى الله عليه وسلم الذي يأكل الغيظ منه كبدك: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (القصص: 50).
أنت تعلم، وإن كنت لا تعلم فاعلم أنه فضح من قبلك الكثيرين، ولن يتوقف فضحه للمرجفين أمثالك الذين لا تسكن ولا تستكين نفوسهم الخبيثة إلا في الخوض في الأخبار الخبيثة والسيئة، وغاية أمانيهم إيقاع الناس في الفتن والاضطراب، وقد استطال طابور الأغبياء والحاقدين، والرُعْن والحاسدين، والمنافقين والكافرين، وتمدد في مساحة زمنية تربو على أربعمائة وألف عام وما زال وسيبقى حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
أيها الصغير، إن كنت شريف الغرض، نزيه الغاية؛ فاجمع كل الصغار أمثالك، واقبلوا التحدي، حينها ستعلمون حجمكم أمام هذا العملاق الذي لا تحدّ صدقه، ولا بلاغته، ولا قوته حدود.
دعك من الشبهات التي يختلقها فكرك المريض، فلكل شبهة رد وربما ردود.
حرقك للقرآن ينمّ عن سوء خلقك، وسوء فكرك، وسوء تربيتك، فمن المعلوم بالضرورة أنك من وجهة فكري كافر، وأنا كذلك من وجهة فكرك، ومع هذا الفكر نتعايش: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ {1} لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ {2} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {3} وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ {4} وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ {5} لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون).
نتعايش وتتعايش بلادنا مع بعضها بعضاً، تاركين أمر حساب المخطئ فينا لله سبحانه وتعالى وعليه، فلمَ تفعل ما تفعله؟!
لمَ كل هذا الحقد على الإسلام ورسوله، وعلى المسلمين وكتابهم؟!
ليس من تفسير إلَّا أن هذا الكم المتراكم من السوء هو الذي يدفعك إلى هذا الكم المتراكم من الحقد.
يبرهن على صحة قولي أن هناك المليارات غيرك من أهل ديانتك يتقبلون الإسلام والمسلمين، ويتعايشون معهم في سلم وسلام، وهناك الملايين يرتبطون بحب ورضا وقناعة بعلاقات تتمايز في أشكالها، وتتباين في أنواعها مع الإسلام والمسلمين، فينبغي عليك أن تكون في غاية اللطف مع أناس لم يتعرضوا لدينك بسوء.
اعلم أنك ستعاود الهتاف في وجهي الآن: كيف لم يتعرضوا لي بسوء وهم يروني كافراً؟!
فأعاود هزّ ضميرك بكل قوة وعِزَّة: وماذا في ذلك؟ أنت تراهم كفارًا، وهم يرونك كذلك.. ثم إن اليهود يرونك كافرًا؛ هل تجرؤ على النيل منهم؟ أنت تعلم، ستُتَّهم بمعاداة السامية، ثم يحشرونك ليس في الزاوية، وإنما في المرحاض!
فاعلم يا هذا أن الشيطان الذي يتملكك بوسوسته جعل فعلتك مضغة في أفواه الناس حتى من المنصفين من أهل ديانتك.
وكن على يقين بأنه مهما طال العهد بالباطل، فإن هذا لا يصيره حقاً.
فلا تشن حرباً في أمر يُحلُّ بالسلام أو بالكلام.
ولئن كانت العصبية المقيتة قد خيمت بظلالها على حياتك الكئيبة، ورفعت صوتها حتى قمعت صوت ضميرك، فادفع ضميرك للأمام ولا تجعله يتراجع أمامها إلى الخلف، فإن من يستمرئ العصبية يحكم على نفسه بالشقاء، ولن يقدر على دفع ضميرك الدفعة المنشودة والدائمة إلَّا الحيادية والنزاهة.
فتعلَّم كيفية المنافسة الشريفة.. تعلَّم أيها المشبوه كيفية البحث في التاريخ بغرض شريف، وغاية نزيهة.
يا من حرقت النزاهة في ضمير الإنسان.. تُـراك حرقت شيئًا من القرآن؟!