زلزال تركيا وسوريا الذي وقع فجر السادس من فبراير/ شباط 2023م، وما تبعه من ارتدادات وصلت لأكثر من 6500 ارتدادة، والزلزال الذي وقع مساء الإثنين يوم 20 من نفس الشهر؛ كان كاشفًا بشكل فج عن ازدواجية المعايير لدى العديد من الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يؤكد دومًا أن النظام الدولي الذي تتحكم فيه دول المركز (أمريكا والغرب) لا يسعى إلا إلى مصالحه فقط، أما سردية حقوق الإنسان وما شابهها، فذلك للاستهلاك الإعلامي من جانب، ولابتزاز دول الأطراف (الدول ذات التأثير المحدود) من جانب آخر.
فإذا تعلق الأمر بمصالح دول المركز، نجد التحرك السريع والإدانات هنا وهناك تنتشر كالنار في الهشيم، مع الدعم الواضح والكثيف للدولة، أو الجهة، أو المنظمة التي تعود بالفائدة على الغرب، ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث، ولا يزال من صراع بين الغرب بقيادة أمريكا وبين وروسيا وحلفائها على الأرض الأوكرانية، فالهدف الحقيقي الغاطس، ليس الوقوف مع دولة تُنتهك أراضيها، أو يُقتل أبناؤها بالدرجة الأولى، ولكن الهدف الأهم، هو الوقوف ضد روسيا وإضعافها، وتكبيدها الخسائر الكبيرة حتى لا تنازع أمريكا وحلفائها في قيادة العالم. وهذا هو بيت القصيد، ولعل زيارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” الأخيرة جاءت في هذا السياق.
ونفس المسألة تتعلق بملف حقوق الإنسان، فنرى ونشاهد بما لا يدع مجالًا للشك أن ازدواجية الغرب المقيتة هذه تظهر بشكل واضح في دعم الأنظمة المستبدة الديكتاتورية، حتى لو تعلق الأمر بانتهاكات لحقوق الإنسان، ووقتها لا نسمع صوتًا، أو استنكارًا، طالما أن الأمر مرتبط بمصالح الغرب، واحتياجاته من تلك الدول، وربما يشعرون بالقلق المُخجل فقط، ويعبرون عنه بطريقة مضحكة.
وفي الجهة المقابلة إذا لم تحقق دولة ما أو مجموعة دول مصالح الغرب، فالوصف الطبيعي أنها توصف بالدولة المارقة، أو المُنتهكة لحقوق الإنسان، وغير ذلك من الأوصاف، والإدانات التي تُصدِّق عليها من منظمات دولية تحتكرها الولايات المتحدة الأمريكية كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن، وغير ذلك من المنظومة الدولية المختلّة التي لا تنصف الضعيف على القوي، أو تقف بجوار المظلوم في مواجهة الظالم. وتلك هي المصيبة الكبرى.
زلزال تركيا وسوريا كشف عورة الغرب
الزلزال الذي كان مركزه كهرمان ماراش في الجنوب الشرقي لتركيا بقوة (7.7) على مقياس ريختر، والذي أثّر بشكل كبير على أكثر من عشر ولايات تركية، وكان تأثيره مُفجع على الشمال الغربي لسوريا، في المنطقة التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية، هذا الزلزال خلّف ما يقرب من 50 ألف قتيل في كل من تركيا وسوريا، حتى الآن، وأكثر من 120 ألف مصاب بعضهم في حالات حرجة، ناهيكم عن عشرات الآلاف من الأبنية التي تهدّمت، وملايين المشردين.
مع كل هذه الكارثة التي أثّرت بشكل كبير على تركيا والشمال السوري، لم نجد من دول المركز التي لها تأثير كبير على مجريات الأمور في العالم، وفي نفس الوقت لديها إمكانيات هائلة، التحرك المناسب سواء في سرعته أو حجمه، ولعل الاعتراف الأوضح بالإخفاق كان على لسان وكيل الأمين العام الأممي للشؤون الإنسانية (مارتن غريفيث) الذي أقرّ بأن الأمم المتحدة فشلت في إيصال المساعدات، وأن الناس شمال غرب سوريا محقّون في شعورهم أن المجتمع الدولي تخلى عنهم.
ومن المؤسف أن تنتظر الأمم المتحدة ثمانية أيام كاملة قبل أن ترسل أول وفد إلى الشمال السوري لتقدير الاحتياجات لعمليات الإنقاذ، وإغاثة المتضررين بعد أن حصلت على موافقة النظام!
هذا التصرف من المنظمة عرّضها لاتهامات بـتسييس المساعدات، ومنْح رئيس النظام السوري بشار الأسد، الذي قتل شعبه، مكتسبات مجانية، وخلال الأيام الثمانية التي سبقت ذلك، مات آلاف السوريين بانتظار الإنقاذ من تحت الركام، وعبّر الناجون منهم في حملات واسعة عن غضبهم وشعورهم بالخذلان من الأمم المتحدة.
وهذا ما أكّده (ديفيد هيرست) الكاتب البريطاني المعروف بعد الكارثة، بقوله إن: “زلزال تركيا وسوريا كشف عن الوجه الحقيقي لأوروبا والغرب عمومًا، وأثبت أن العالم مهتم بالتدمير والحرب أكثر من اهتمامه بالتعمير”.
وقال في مقاله بـصحيفة ميدل إيست أي “إن الزلزال وفر للغرب فرصة ليظهر أنه قادر على إعادة البناء مثل قدرته على التدمير، وعلى توفير قيادة أخلاقية، وإنسانية لملايين الناس، ولكن هذه الفرصة ضاعت بسبب أن الغرب مهتم بالحرب على أوكرانيا أكثر من أي شيء آخر”.
هذا الكلام في العموم لم يكن مفاجئًا لكل من يفهم سياسة الغرب، ويشاهد ممارساته على أرض الواقع، فالشواهد على حالة الفصام، والمعايير المزدوجة للغرب كثيرة، وربما المآسي والانتهاكات التي يمر بها الشعب الفلسطيني خير دليل على هذه الازدواجية المقيتة.
الجهود الشعبية تفضح المنظمات الدولية
دائمًا تحرك الشعوب في الكوارث، والملمات يسبق في أحيانٍ كثيرة الجهود التي تبذلها الحكومات والمنظمات الدولية، والدول الكبرى، وهذا ما شاهدناه في حالة الزلازل التي لحقت بتركيا وسوريا في الفترة الأخيرة، فوجدنا التضامن والنصرة من الشعوب العربية والإسلامية التي انتفضت لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأرواح، والوقوف بجوار إخوانهم المنكوبين في هذه الأزمة، وكان التحرك الواضح من الأفراد والجمعيات والهيئات الخيرية في دول الخليج خير مثال على ذلك، حيث تم جمع المليارات في وقت محدود، وتحركت مؤسسات عديدة في قطر والكويت والسعودية بشكل كبير للنجدة والنصرة وتضميد الجراح، وإرسال المعونات المادية والعينية، والمساكن الجاهزة، والأجهزة والأطقم الطبية. كل ذلك بشكل سريع وفاعل.
وما شهدناه، أيضًا، بشكل واضح من تحرك الدولة التركية بكل مؤسساتها، وأجهزتها، وإمكانياتها لإنقاذ المنكوبين، والوقوف بجوار المضارين، وهذا هو واجب الوقت المنوط بالدولة، والكمّ الهائل من تضامن الشعب التركي، وتحركه السريع للدعم، والمساعدات المالية، والمعونات العينية المختلفة التي قامت بها كل الجهات والمؤسسات الإغاثية، والعمل الرائع الذي قام به العديد من الفنانين المشاهير في المحطات التليفزيونية التي حددت عددًا من الساعات للبث المباشر في وقت واحد، وتم جمع ما يقارب الـ 7 مليار دولار، وكذا تبرع العديد من المسؤولين بشهر أو شهرين من رواتبهم، وهذا ما قام به أيضًا بعض الأحزاب في المعارضة التركية. فالجميع تحرك وشارك، كما ساهمت الجاليات العربية في تركيا بجهد ملحوظ على كل المستويات من جمع تبرعات مالية وعينية وخدمية، ولم يبخل الشباب والرجال والنساء والأطباء بالوقت والدعم، والمساهمة في الإنقاذ.
كل هذه الجهود والمساهمات دليل واضح على أن الشعوب الحيّة تتحرك من تلقاء نفسها للنصرة، وتقديم العون بكل أشكاله، وفي ذات الوقت تذوب مختلف التوجهات السياسية والأيدولوجيات العرقية والدينية، ويبقى الإنسان هو النموذج والمثال للوقوف مع أخيه الإنسان لبث روح الأمل والحياة في شرايينه، وإنقاذه بكل الوسائل المتاحة.
كل الشكر والتقدير والإجلال وفائق الاحترام؛ لكل من وقف مع الشعبين السوري والتركي في هذه المحنة التي ألمّت بهما، من المسعفين وفرق الإنقاذ، والأجهزة المعنية على المستوى المحلي والدولي، ولا شك أن هذه المحنة ستتحول في وقت قريب، بحول الله، إلى منحة تدفع بالشعوب لقيادة نفسها، والتخلي عن النظام الدولي الظالم الذي يسعى إلى مصلحته فقط.
والشكر موصول للأفراد والمؤسسات والجمعيات الإغاثية في أنحاء العالم، والجاليات العربية في تركيا، وكل من قدّم الدعم والعون لإنقاذ المنكوبين من الشعبين السوري والتركي، سواء من الدول العربية والإسلامية، أو غيرها.
ولا تزال الأزمة تحتاج إلى التفاعل بشكل كبير، لنجدة المنكوبين تحت الأنقاض، وإيواء المشردين، ومعالجة المصابين، وتضميد جراحهم، وخصوصًا بعد تتابع الزلازل في نفس المناطق.
والشعوب عليها المعول الأكبر في النصرة والعون، والإنقاذ العاجل، قبل الدول والحكومات التي تذهب إلى تسييس مثل هذه المواقف. يقول تعالى: (وأَنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وأَنفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) (الحديد: 7).
ــــــــــــــــــــــــ
عربي 21
موقع إلكتروني: www.gamalnassar.com