إن ما أطلق عليه الدين الرابع «الإبراهيمي» أو بالعقيدة الإبراهيمية (المزعومة) يعتبر ظاهرة قديمة حديثة، حاول دعاتها الخلط بين الأديان، وإنشاء دينٍ جديدٍ في مضامينه ومقاصده وغاياته، وحسب ادعاءاتهم قالوا: إن هناك مشتركات بين الأديان تمثل ديناً رابعاً، يجمع الديانات السماوية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، واستبعدوا جميع نقاط الاختلاف الفكري والعقدي بينها، وقد أخذ هذا المفهوم واصطلاحاته تُطرح للبحث والمناقشة بكثرة، بعد أن تم الإعلان عنه صراحة من قبل أشخاص ومراكز تدعي البحث، في حين أنها تشتغل لأغراض بحثية مدفوعة الثمن، وتمولها مؤسسات وهيئات، وحتى بعض الساسة وقادة أنظمة دول معينة.
وهذا ما أوجب على العلماء والفقهاء والراسخون في العلم وطلابه بيان حقيقة ديانة داعية التوحيد وخليل الله إبراهيم عليه السلام، والتحذير مما نُسب إليه من أكاذيب وأباطيل وافتراءات، ونبدأ بهذه السلسلة لشرح تلك الحقيقة، وبناء صورة جلية لأبناء الإنسانية حول أصل ومنبع ديانة نبي الله وأبي الأنبياء والمرسلين إبراهيم عليه السلام، التي دعا إليها، وبراءته مما نسب إليه من باطل وإفك مبين.
لقد كتب د. بكر عبدالله أبو زيد، رحمه الله، كتابه القيم في هذا المجال، وانتصر فيه لملّة ودين خليل الله إبراهيم عليه السلام، وسمّى كتابه «الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان»، وخرج بمجموعة من النتائج:
يجب على المسلمين الكفر بهذه النظرية: «وحدة كل دين محرّف منسوخ مع دين الإسلام الحق المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل الناسخ لما قبله»، وهذا من بديهيات الاعتقاد والمسلّمات في الإسلام.
يجب على أهل الأرض اعتقاد توحّد الملة والدين في دعوة جميع الأنبياء والمرسلين في التوحيد والنبوات والمعاد، كما مضى التقرير مفصلاً، وأن الأصل العقدي لم يسلم إلا لأهل الإسلام، وأن اليهود والنصارى ناقضون له متناقضون فيه لا سيّما في الإيمان بالله وكتبه ورسله.
يجب على أهل الأرض اعتقاد تعدد الشرائع وتنوعها، وأن شريعة الإسلام هي خاتمة الشرائع، ناسخة لكل شريعة قبلها، فلا يجوز لبشر من أفراد الخلائق أن يتعبد الله بشريعة غير شريعة الإسلام.
وإن هذا الأصل لم يسلم لأحد إلا لأهل الإسلام؛ فأمة اليهود كافرون بهذا الأصل لعدم إيمانهم بشريعة عيسى عليه السلام، ولعدم إيمانهم بشريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأمة النصارى كافرون بهذا الأصل لعدم إيمانهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبشريعته وبعموم رسالته، والأمتان كافرتان بذلك، وبعدم إيمانهما بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ومتابعته في شريعته وترك ما سواه، وبعدم إيمانهما بنسخ شريعة الإسلام لما قبلها من الشرائع، وبعدم إيمانهما بما جاء به من القرآن العظيم وأنه ناسخ لما قبله من الكتب والصحف؛ (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (آل عمران: 85)، وفي صحيح مسلم أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار» (أبو زيد، الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان، ص92).
أنَّ الإسلام الذي جاءت به رسل الله تعالى، الذي هو ملة إبراهيم عليه السلام، الذي هو الدين الحق، يُبطل نظرية الخلط بينه وبين غيره من الشرائع الدائرة بين التحريف والنسخ، وأنه لم يبق إلا الإسلام وحده والقرآن وحده، وأن محمداً صلّى الله عليه وسلّم لا نبي بعده، وأن شريعته ناسخة لما قبله، ولا يجوز اتباع أحد سواه. (أبو زيد، الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان، ص94).
أنه لا يجوز لمسلم طباعة التوراة والإنجيل، وتوزيعهما ونشرهما، وأن نظرية طبعهما مع القرآن الكريم في غلاف واحد من الضلال البعيد والكفر العظيم؛ لما فيها من الجمع بين الحق (القرآن الكريم)، والباطل؛ لما في التوراة والإنجيل من التحريف والتبديل، وأن ما فيهما من حق فهو منسوخ.
أنه لا تجوز الاستجابة لدعوتهم ببناء مسجد وكنيسة ومعبد في مجمع واحد لما فيه من الدينونة، والاعتراف بدين يُعبد الله به سوى الإسلام، وإخفاء ظهوره على الدين كله ودعوة مادية إلى أن الأديان على أهل الأرض التدين بأي منها، وأنها على قدم التساوي، وأن الإسلام غير ناسخ لما قبله، وهذه المردودات السالبة فيها من الكفر والضلال ما لا يخفى، فعلى المسلمين بعامة ومن بسط الله يده عليهم بخاصة الحذر الشديد من مقاصد الكفرة من اليهود والنصارى في إضلال المسلمين والكيد لهم، فإن بيوت الله في أرض الله هي المساجد وحدها؛ (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) (الأعراف: 29).
المساجد من شعائر الإسلام، فواجب تعظيمها ورعاية حرمتها، وعمارتها، ومن تعظيمها ورعاية حرمتها وعمارتها عدم الرضا بحلول أي عقيدة بالدين الذي جاء به الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم، وبالقرآن الذي أُنزل عليه، وشريعته الناسخة لمن سبقته من الديانات الكبرى التي أخبرت عن طريق رسولها وكتبها بوجوب متابعة النبي صلّى الله عليه وسلّم والإيمان قبل أن تنالها التحريف والتبديل.
ليعلم كل مسلم أنه لا لقاء ولا وفاق بين أهل الإسلام والكتابيين وغيرهم من أمم الكفر إلا وفق الأصول التي نصت عليه الآية الكريمة: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (آل عمران: 64)، وهي توحيد الله تعالى ونبذ الإشراك به وطاعته، في الحكم والتشريع واتباع خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي بشرت به التوراة والإنجيل، فيجب أن تكون هذه الآية هي شعار كل مجادلة بين أهل الإسلام وبين أهل الكتاب وغيرهم، وكل جهد يبذل لتحقيق غير هذه الأصول فهو باطل.. باطل.. باطل. (أبو زيد، الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان، ص 101).
والقرآن الكريم صريح وواضح بالفصل بين دين الإسلام وغيره من الأديان، بل يعدّ ذلك من القضايا اليقينية التي بيّنها القرآن الكريم أبلغ بيان، وأنّ شريعة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم هي الشريعة الناسخة لما قبلها من الشرائع؛ قال الله تعالى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (آل عمران: 19)، وقال سبحانه: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (البقرة: 137):
قول الطبري:
يعني الله تعالى بقوله: (فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ): فإن صدق اليهود والنصارى بالله، وما أنزل إليكم، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم وأقروا بذلك، مثل ما صدقتم أنتم به أيها المؤمنون وأقررتم، فقد وفقوا ورشدوا ولزموا طريق الحق، واهتدوا، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك، فقد دلَّ الله تعالى بهذه الآية على أنه لم يقبل من أحد عملاً إلا الإيمان بهذه المعاني التي عدها قبلها. (الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، ج3، ص113).
وهذه الكلمة من الله، وهذه الشهادة منه سبحانه، تسكب في قلب المؤمن الاعتزاز بما هو عليه، فهو وحده المهتدي ومن لا يؤمن بما يؤمن به فهو المشاق للحق والمعادي للهدى ولا على المؤمن من شقاق من لا يهتدي ولا يؤمن ولا عليه من كيده ومكره ولا عليه من جداله ومعارضته فالله سيتولاهم عنه، وهو كافيه وحسبه. (قطب، في ظلال القرآن، ج1، ص118).
وفي قوله: (وَإِنْ تَوَلَّوْا): وإن تولى هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى) فأعرضوا، فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياء وابتعثت به الرسل، وفرقوا بين رسل الله وبين الله ورسله فصدقوا ببعض وكفروا ببعض، فاعلموا أيها المؤمنون، أنهم إنما هم في عصيان وفراق وحرب لله ولرسوله ولكم. (الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، ج3، ص113).
وقوله تعالى: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ): فسيكفيك الله يا محمد هؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا) من اليهود والنصارى، إن هم تولوا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله، وبما أنزل إليك، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم، وفرقوا بين الله ورسله إما بقتل السيف وإما بجلاء عن جوارك وغير ذلك من العقوبات.
فإن الله هو (السَّمِيعُ) لما يقولون لك بألسنتهم ويبدون لك بأفواههم من الجهل والدعاء إلى الكفر والمِلل الضالة، و(الْعَلِيمُ) بما يبطنون لك ولأصحابك والمؤمنين في أنفسهم من الحسد والبغضاء، ففعل الله بهم ذلك عاجلاً وأنجز وعده، فكفى نبيه صلّى الله عليه وسلّم بتسليطه إيّاه عليهم، حتى قتل بعضهم وأجلى بعضاً، وأذل بعضاً وأخزاه بالجزية والصغار. (الطبري، جامع البيان في تأويل القرآن، ج3، ص116).
قول السعدي:
أيّ؛ فإن آمن أهل الكتاب بمثل ما آمنتم به يا معشر المؤمنين من جميع الرسل وجميع الكتب الذين أول من دخل فيهم وأولى خاتمهم، وأفضلهم محمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن، وأسلموا لله وحده، ولم يفرقوا بين أحد من الرسل (فَقَدِ اهْتَدَوْا) للصراط المستقيم الموصل لجنات النعيم، أي: فلا سبيل لهم إلى الهداية إلا بهذا الإيمان، لا كما زعموا بقولهم: (كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا)، فزعموا أن الهداية خاصة بما كانوا عليه. (السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص98).
و«الهدى»: هو العلم بالحق والعمل به، وضده الضلال عن العلم، والضلال عن العمل بعد العلم، وهو الشقاق الذي كانوا عليه لما تولوا وأعرضوا، فالمُشاق هو الذي يكون في شقّ والله ورسوله في شق، ويلزم من المشاقة المحادة والعداوة البليغة التي من لوازمها بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول، فلهذا وعد الله رسوله أن يكفيه إياهم؛ لأنه السميع لجميع الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، العليم بما بين أيديهم وما خلفهم بالغيب والشهادة، بالظواهر والبواطن، فإذا كان كذلك، كفاك الله شرهم وقد أنجز الله لرسوله وعده وسلطه عليهم، حتى قتل بعضهم، وسبى بعضهم، وأجلى بعضهم، وشردهم كل مشرد، ففيه معجزة من معجزات القرآن، وهو الإخبار بالشيء قبل وقوعه، فوقع طبق ما أخبر. (السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص98).
هذا هو منهاج القرآن وكلام رب العالمين الواضح في الفصل بين الحق والباطل، فلا تشطير ولا ترقيع، فالحق حق والباطل باطل، فالحق ينبغي أن يؤخذ كله ولا يتنازل فيه عن شيء فبقدر ما يقع من التنازل بقدر ما ينطفئ نور الحق في نفس الفاعل، فلهذا أمر الله نبيه محمداً صلّى الله عليه وسلّم ألا يلتفت إلى اقتراحات اليهود والنصارى الباطلة، وأن يلتزم بشرعه وما ألزمه الله به، وهكذا يبقى هذا المنهاج خالداً ما دامت السماوات والأرض. (المغراوي، التدبر والبيان في تفسير القرآن بصحيح السنن، ج2، ص319).
وليس على المؤمن إلا أن يستقيم على طريقته، وأن يعتز بالحق المستمد مباشرة من ربه سبحانه وتعالى، وبالعلامة التي يضعها الله على أوليائه، فيُعرفون بها في الأرض. (قطب، في ظلال القرآن، ج1، ص118).
إن الإسلام لا يرفض التعايش مع غير المسلمين والإحسان، وإعطاءهم حقوقهم التي جعلها الله عز وجل لهم، بل يدعو إلى ذلك ويحضّ عليه، ولكن مع ذلك فالإسلام لا يقرّ اليهود والنصارى على ديانتهم، بل إنّ القرآن الكريم يصرح في كثير من المواضع على تحريفهم لكتبهم، وعلى ذكر أشياء كثيرة من باطلهم، وينقض عقيدتهم، ويقرر بطلانها، وأنها نُسخت بدين الإسلام، مع التنبيه أنّ عرض ما يدل على بطلان عقيدتهم ونسخ شريعتهم، وبطلان ما يسمى بالإبراهيمية لا يعني أننا نرفض التعايش معهم، والإحسان إليهم كما أمر الله سبحانه، قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة).