يقال: إن العقل الجمعي هو الطريقة التي نشخص فيها ما هو صحيح عن طريقِ ما يظنه الآخرون صحيحاً، أو بعبارة أخرى: «ظاهرةٌ نفسيَّةٌ يفترِضُ فيها الإنسانُ أنَّ تصرفات الجماعة في حالةٍ معيَّنةٍ تعكِسُ سلوكاً صحيحاً»، أو كما عرفه غوستاف لوبون، الطبيب والمؤرخ الفرنسي، وأحد مؤسسي علم النفس الاجتماعي، بأنه «الاستجابةُ غيرُ العقلانية لِمَا تردِّدُه الجماعةُ».
وفي زمننا هذا حيث أصبح التنافس على عدد المشاهدات والإعجابات وعناصر الإبهار، و«الترندات» والظواهر على اختلافها التي تثير إعجاب الملايين من الجماهير وتجذبهم لها، فإن التحدي أصعب.
فتلك الجماهير تجعل البعض يقف مشدوهاً متسائلاً: كيف يكون رأي هذا الجمع خطأً ورأيي صائباً؟ كيف تكون ذائقة الجميع بهذا السوء، وذائقتي سليمة؟ ربما تجد نفسك شاذاً وسط الجمهور.. وربما نظرت لنفسك ببعض الحسرة.. وربما تراجعت عما تفعل من صواب بدعوى أن «لا فائدة».. وربما اضطررت أحياناً إلى تقبل ما يقبله الجميع وترفضه نفسك.
يقول أينشتاين: «إذا سِرْتَ معَ القَطِيع سَتَصِلُ إِلَى حَيْثُ يَقُودُكَ القَطِيعُ.. وَإِذَا سِرْتَ وَحْدَكَ سَتَذْهَبُ إِلَى أَبْعَدِ مَدَى تُرِيدُهُ أنْتَ».
ودعني أخبرك أنه لا منقذ لك من السير مع القطيع سوى عقلك، وأهم حرب ستخوضها في حياتك هي حربك مع عقلك.. الوعي وحده هو ما يحررنا من الانخراط مع العقل الجمعي.
لم تكن الكثرة أبداً مقياساً للصواب، ولم تكن الجماهير الغفيرة دليلاً للطريق القويم دائماً، ولذا نجد أن القرآن الكريم يذم اتباع الكثرة في مواضع كثيرة، منها: (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ) (الأنعام: 116)، وقوله تعالى: (وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ) (الصافات: 71)، وقوله سبحانه: (وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ) (الزخرف: 78).
وعلى الجانب الآخر، امتدح الله تعالى القلة الواعية التي خالفت بالعقل والحكمة والتدبر والتفكر طريق القطيع فيقول جل شأنه: (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13)، ويقول تعالى: (ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ {13} وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ) (الواقعة)، ويقول سبحانه: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ) (البقرة: 83)، ويقول تعالى: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ) (البقرة: 246)، ويقول جل وعلا: (وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) (النساء: 83)، ويمتدح القلة الواعية بقوله تعالى: (وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ) (هود: 40).
وهنا يثور عدد من الأسئلة:
متى يتوجب عليك التحرر من العقل الجمعي اللاواعي؟
أراد الله تعالى أن ينقذ الإنسان من الأسر الجمعي وثقافة القطيع، فيقول تعالى واصفاً آليات النجاة والتحرر منه في سورة «سبأ»: (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ {45} قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ).
ففي الآيات دعوة صريحة إلى التحرر من قيد المجموع إلى رحابة التفكير الحر بصورته الفردية.
لذلك، فإن أهم وقت أو مرحلة في حياتك يجب عليك فيها استخدام عقلك الفردي الواعي والتحرر من سيطرة العقل الجمعي ومعتقداته وأفكاره هي مرحلة تكوين آرائك واتجاهاتك وكيانك الخاص، هي مرحلة البحث عن إيمانك وتكوين منظومتك القيمية الخاصة، وهنا يولد سؤال آخر:
ماذا لو كانت منظومة قيمي وآرائي التي تكونت بعقلي الواعي مخالفة لقيم وأفكار العقل الجمعي؟
هنا ستجد أنك أمام خيارين منطقيين لا ثالث لهما؛ الأول: أن تبقي عقلك الواعي بمعزل عن رأي الجماعة؛ بمعنى أن تقف وحيداً، صامتاً، حيادياً، تخشى من تبعات وعواقب الاختلاف التي ستطالك إذا ظهرت آراؤك للعلن.
أما الثاني: المواجهة؛ وهي مغامرة ستحتم عليك دفاعاً مستميتاً -مهلكاً في بعض الأحيان- عن رأيك في مقابل رأي الجماعة.
ولكن دعنا لا نكون ذوي حكم مسبق.. فالحياة تتلون بألوان أخرى غير الأبيض والأسود، دعنا نعود خطوتين للوراء ونتساءل في الأساس:
كيف نبني عقلنا الواعي؟
إجابة هذا السؤال لا بد لها من العودة إلى النبع الصافي، وهو القرآن الكريم، لتجد قدرة مبهرة على بناء عقول عاشت في زمن الجاهلية الشديدة، ومع ذلك استطاع هذا المنهج أن يعيد صياغتها من جديد وفق وعي لا ينخرم أبداً.
خذ مثلاً قوله تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة: 256)، ففي هذه الآية دعوة صريحة إلى تحرر العقل الفردي وعدم الانسياق وراء العقل الجمعي حتى لو كان ناتجاً عن الإكراه، فقد حرص الإسلام على منهجية التفكير الحر وإبعاد المؤثرات.
فالعقل نور يهدي صاحبه إلى الطريق القويم فقط إذا اهتم بصقله وتنميته، ولهذا يجب أن تنمي عقلك ليكون عقلاً نقدياً باحتراف، فيتحول لجهاز فحص (فلتر) لا يمرر أي شيء دون أن يخضعه لمراحل الفحص الشديد ليكون موقفه منه موقفاً مبنياً على حقائق منهجية.
فحين يمتلك عقلك معايير وموازين محددة لن تخدعه الأفكار؛ لأنه ببساطة سيفحصها بدقة ويلقي المموهة والكاذبة والخادعة منها في سلال المهملات.
والعقل النقدي ستنميه فقط بالتأمل والتفكر والحوار والنقاش بالبحث عن مصدر المعلومة الموثوق، بالقراءة، بتمعن وبسؤال واستشارة الخبراء.
ولهذا يجب أن تكون متابعاً دؤوباً لما يحدث حولك، ولا تكن طاعتك عمياء، كن مراقباً جيداً لما يتوافق مع القيم والمبادئ والأخلاق، وإياك والاستبداد بالرأي فمن استبد برأيه هلك.
ولا تكتفِ بالمعرفة، بل حللها ليتولد عندك حدس ورؤية بعيدة للأمور، واجعل معيارك الصحيح هو «الحق»، كما قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: «الحق لا يعرف بالرجال وإنما يعرف الرجال بالحق».
ولا تظن أبداً أنها طريق معبدة، خالية من العقبات، ولكنها طريق وعرة مليئة بالعثرات والصعاب التي لن يذللها أمامك سوى مثابرتك وسعيك الدؤوب نحو ما هو صحيح.
ولعلك تتساءل الآن: هل سأظل بعدها وحيداً؟ كيف سأملأ احتياجي الفطري للتواصل؟ فالإنسان لا يمكنه أن يحيا وحيداً.. وإجابة هذه المعضلة هي إجابة السؤال التالي:
متى يتوجب عليك الاندماج مع العقل الجمعي؟
جاء الأمر القرآني للوقاية من فتنة العقل الجمعي اللاواعي عن طريق تغييرها إلى الاندماج مع العقل الجمعي الصالح «الصحبة الصالحة».
ففي سورة «الكهف» التي نقرأها كل جمعة للوقاية من فتنة الدجال كما أوصانا رسولنا صلى الله عليه وسلم، تجد الدعوة صريحة في قوله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: 28).
فالآية المنهجية تلك وردت بعد قصة أصحاب الكهف، «القلة المؤمنة» التي فرت من القرية المشركة، إلى كهف يحتمون فيه من فتنة الدين، فجاءت حجة على الإنسان أنه لن يحمي إيمانه ومعتقداته وحريته، ولن يدعمه في كفاحه ضد الوعي الجمعي اللاواعي إلا صحبة تسير معه على نفس النهج.
وحين ننظر في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة: 119) نجد أنه تعالى قال مع الصادقين وليس من الصادقين؛ لأن المعية تعني الصحبة والصحبة تؤثر على القلب فإما تنيره وإما تطفئه.
المعنى ذاته ورد في قصة الرجل الذي قتل 99 نفساً، فسأل عابد هل لي توبة؟ فقال: لا.. فقتله فأكمل به المائة، وسأل عالماً: هل لي توبة؟ فقال له: نعم، مشترطاً مفارقة «أرض قوم سوء» إلى أرض فيها صالحون.
«فالمرء على دين خليله»، كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، وكما قال ابن عطاء: «لاَ تَصْحَبْ مَنْ لاَ يُنْهِضُكَ حَالُه وَلاَ يَدُلُّكَ عَلَى اللهِ مَقَالُه».