لا يمكن الحديث عن أولويات المرأة المسلمة في اللحظة الراهنة دون الخوض في تلك التحديات التي تعايشها التي يتشابك فيها الفكر بما فيه من قيم أصيلة وما فيه من مساحات قابلة للتجديد مع الواقع بضغوطه ومآزقه وتعدد لاعبيه.
ولو أخذنا قضية عمل المرأة كنموذج لهذا الاشتباك، سنجد أن هناك توجهاً عاماً للفتيات لاعتماد العمل المأجور كجزء أصيل من نمط الحياة المعاصرة، حتى وصل الأمر لاشتراط بعضهن في عقد الزواج ألا يتم منعها من العمل، مع قبول واسع ومتزايد من الرجال لهذا الأمر.
حتى إن بعض الباحثين يرى أن قضية عمل المرأة هي من تلك القضايا التي تم حسمها لصالح خروجها للعمل، وأن الجدل حولها أصبح ترفاً فكرياً، أو أن محله هو البحث التاريخي وليس تحدي الأولويات الراهنة.
وعلى الرغم من القبول المتزايد بعمل المرأة، فإننا نرصد أصواتاً معارضة ليست بالقليلة، كتلك المنشورات الرائجة التي تحمل عمالة الفتيات عبء البطالة بين الشباب، وتدعو لترك فرص العمل الشحيحة لهم.
وبالنظر إلى التعليقات على مثل هذه المنشورات، سنجد تعاطف قطاع غير قليل من الجنسين للأطروحة، ولو وضعنا في الحسبان الأدبيات الدينية التي تدعو للقرار في البيت في مواجهة الخروج للعمل كضرورة شرعية وأولوية للأسرة المسلمة، سنجد أن القضية لم تحسم بعد.
ولا يمكننا بالطبع إغفال قطاعات تسعى للاجتهاد الفكري في قضية عمل المرأة سواء عن طريق الربط بالواقع كاحتياج المرأة للعمل أو احتياج قطاعات معينة للعمل النسائي، أو محاولة استثمار الثورة المعلوماتية لصالح النساء عن طريق الترويج لعمل المرأة المأجور عن بُعد دون الحاجة للخروج الفعلي للعمل.
الدوافع الحقيقية
لا يمكننا الحديث عن أولويات المرأة الراهنة دون أن نحدد الدافع المحرك الذي شكل اللحظة الحالية بكل تجلياتها، ولو عدنا لنموذج عمل المرأة المأجور الذي يلاقي قبولاً واسعاً ربما بشكل لم يكن يتصور من قبل؛ سنجد أن هناك ثلاثة دوافع كبرى له:
1- الدافع الاقتصادي:
فالمال عصب الحياة، والأزمات الاقتصادية الخانقة التي تعصف بالعالم وبكثير من بلداننا العربية والمسلمة جعلت هناك حاجة ماسة لعمل المرأة، سواء لسد احتياجاتها الشخصية، أو لتعزيز الأداء الاقتصادي للأسرة، وفي بعض الأحيان للوصول بالأسرة لحد الكفاف وإشباع الحاجات الأساسية لأفرادها.
ولو وضعنا في الاعتبار تنامي ظاهرة الأم المعيلة التي تتحمل وحدها مسؤولية الإنفاق، سنجد أن الواقع الاقتصادي فرض نفسه على الفكر المجرد ليتجسد عمل المرأة كحقيقة ينبغي التعامل معها.
2- جدلية التعليم والعمل:
فوصول النساء لأعلى نقطة في السلم التعليمي طرح سؤالاً وجودياً عن الهدف من هذا التعليم المتخصص.. التعليم الذي يتجاوز المعارف الأساسية الذي يؤهل الفتاة لتصبح زوجة ماهرة وأمّاً ناجحة.. ما الهدف من ورائه؟
الحقيقة أن العلاقة بين تعليم الفتاة وعملها هي علاقة تثير كثيراً من الجدل، فبينما كان الرأي التقليدي أن القضيتين منفصلتان، لكن الواقع كان له رأي مختلف، فرأت كثير من الفتيات أن العمل هو الوجه التطبيقي للتعلم الذي قضين سنوات طويلة في تحصيله.
3- ضغوط التيار النسوي:
وهي ضغوط بالغة الشدة والعنف التي تسعى لتمكين النساء وفقاً لرؤية أممية ترى في عمل المرأة المأجور قنطرة لهذا التمكين.
وفي هذا السياق، لا تتردد النسويات في رفع شعار «العمل أولاً»، والهجوم الوحشي على من يرى أن على المرأة التوفيق بين العمل والبيت بحيث تكون الأولوية للبيت.
أولويات جديدة
على أن الواقع الجديد الذي خرجت فيه المرأة للعمل أنتج تحديات جديدة، وأصبح توصيف هذه التحديات وفقهها ومن ثم البحث عن إستراتيجية للتعامل معها أولوية حقيقية للنساء بدلاً من تلك القضايا المستهلكة التي قتلت بحثاً التي لا تلامس القطاع الأكبر من النساء.
ومن هذه التحديات التي ينبغي منحها الأولوية على بساط البحث:
– التحديات التي تترتب على مشاركة النساء في النفقة:
حيث يتصور بعض الأزواج وبعض الأسر خاصة في الريف والمناطق المهمشة، أن السماح للمرأة بالعمل يعني سقوط حقها في النفقة تماماً، بل سقوط حق الأبناء في النفقة أيضاً، أو يتم إجبار المرأة العاملة على إنفاق كامل راتبها في البيت أو تسليمه للزوج باعتباره المسؤول عن النظام المالي للأسرة.
والإجبار هنا يتم بقوة العادات والعرف، أو حتى التلويح بالطلاق وهدم الأسرة، أو حرمان المرأة من العمل الذي لا يعود جميع عائده للزوج.
ويزداد التحدي تعقيداً عند وفاة الزوج أو في حالة الطلاق، حيث تكون المرأة العاملة مساهمة بقدر لا بأس به في الثروة التي يمتلكها الزوج دون وجود سند قانوني لذلك.
ومن هنا يكون على الباحثين والمهتمين بالشأن الاجتماعي والنساء أنفسهن أن يشاركن في حل هذا التحدي، وأيهما أفضل -بحسب ظروف كل بيئة اجتماعية وكل طبقة- تفعيل الذمة المالية الخاصة بالنساء أم تفعيل فتوى حق المرأة في الكد والسعاية مع الأخذ في الاعتبار التطبيقات المعاصرة لمفهوم الكد والسعاية.
– تحدي المشاركة في إدارة شؤون البيت:
فعندما تخرج المرأة للعمل برضا كامل من الزوج ورغبة منه في مشاركتها إياه في مواجهة أعباء المعيشة، فمن العدالة أيضاً أن يشاركها في التبعات والنتائج التي تترتب على هذا العمل المأجور.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كان في مهنة أهله؛ أي يساعدهن في الأعمال التي يقمن بها، إضافة لخدمته لنفسه صلى الله عليه وسلم، فكان كما جاء في مسند أحمد يحلب شاته ويخصف نعله ويرقع ثوبه، وذلك على الرغم من تفرغهن.. فمن باب أولى أن تتم مشاركة من تقوم بعمل مأجور يمثل جزءاً أساسياً من ميزانية الأسرة، وهي ثقافة غير شائعة للأسف في مجتمعاتنا التي ترى في ذلك انتقاصاً لرجولة الرجل.
ومن ثم تتحمل المرأة العاملة مسؤولية مضاعفة مهمتها التقليدية لإدارة البيت بالإضافة لمهام عملها وأحياناً تكون مسؤولية ثلاثية بتحميلها وحدها كل ما يخص الأبناء أيضاً من توجيه وتعليم وتمرين ونحو ذلك.
يمكننا القول، إذن:
إن التأصيل الإسلامي للذمة المالية للنساء أو ضمان حقهن في الكد، أو التأصيل لثقافة المشاركة هو أولوية قصوى للنساء العاملات.
وليس في ذلك تتبع لسنن الغرب أو انبطاح أمام القيم النسوية.. إنه تفاعل حي في مواجهة نوازل جديدة بعيداً عن إعادة تدوير الأفكار الراكدة بمخاوفها وذرائعها وبُعدها عن الواقعية، بل وبُعدها عن عدالة التشريع.