يعيش الكيان الصهيوني حركة اضطراب سياسي وانقسام داخلي وتصدع مجتمعي غير مسبوق في أعقاب شروع حكومة بنيامين نتنياهو في تمرير مجموعة من الإصلاحات القضائية التي ستفضي إلى المس بالفصل بين السلطات.
وقد دفعت مظاهر التشظي الداخلي الكثير من القيادات الصهيونية للتحذير من إمكانية أن يفضي إلى تفكك الكيان ذاته أو على الأقل أن يقود إلى حرب أهلية مكلفة.
وقبل التعرض لمظاهر التشظي التي يعيشها الكيان في أعقاب البدء في سن التشريعات القضائية، يتوجب التعرف أولاً على طابع الإصلاحات القضائية التي يبدي نتنياهو كل هذا الحرص على تمريرها رغم كلفتها الباهظة على كل المستويات.
الاحتجاجات الرافضة للإصلاحات القضائية باتت تهدد وجود مؤسسات حيوية يعتمد عليها الكيان الصهيوني
فنتنياهو، الذي يحاكم حالياً في ثلاث قضايا فساد خطيرة يعي أنه في حال أدين في واحدة منها، فإن هذا لن يفضي فقط إلى إنهاء حياته السياسية، بل إنه قد يودع السجن لفترة طويلة، وهذا ما جعل نتنياهو معنياً بأن يُحدث تحولاً جذرياً على بنية المؤسسة القانونية وصلاحياتها بحيث يتمكن من الإفلات من المحاكمة والسجن.
لذا، فقد سعى نتنياهو إلى أن يسن الكنيست قانوناً يعفي رئيس الحكومة والوزراء والنواب من المحاكمة طالما كانوا يشغلون مواقعهم الرسمية، حيث أطلق على هذا القانون «القانون الفرنسي»، لكن من أجل تمرير القانون الفرنسي، فإن نتنياهو معنيٌّ بتمرير قانون آخر يجرد المحكمة العليا من صلاحية إعادة النظر في القوانين التي يسنها الكنيست حتى لا يفتي بعدم دستورية القانون الفرنسي؛ حيث أطلق على هذا القانون قانون «التغلب»، وبعبارة أوضح يجرد هذا القانون المحكمة العليا من صلاحية الاعتراض على القوانين التي يسنها الكنيست أو القرارات التي تتخذها الحكومة.
وإن كان نتنياهو معنياً بتمرير قانون «التغلب» لدواعٍ شخصية، فإن قوى اليمين الديني أكثر تحمساً لتمريره؛ لأنه يخدم توجهاتها الأيديولوجية إزاء القضايا المتعلقة بطابع العلاقة بين الدين والدولة، والصراع مع الشعب الفلسطيني، هذا القانون سيضمن لقوى اليمين الديني تمرير القوانين التي تكرس، حسب منطلقاتها، الطابع اليهودي الديني لـ«إسرائيل»، وسيمكنها من تمرير التشريعات واتخاذ القرارات الحكومية التي تساعد على حسم الصراع مع الفلسطينيين، دون رقابة قانونية حقيقية.
ولا يكتفي نتنياهو وشركاؤه من التيار الديني المتطرف بتجريد المحكمة العليا من صلاحياتها، بل أيضاً يصرون على سن قانون يمنح الحكومة القدرة على ممارسة دور رئيس في اختيار القضاة، بحيث تتمكن من تنصيب القضاة المنسجمين مع توجهاتها.
وباستثناء الليكود وقوى اليمين الديني، فإن جميع الأحزاب «الإسرائيلية» الأخرى تعارض سن هذه القوانين وتعدها «وصفة للقضاء على الديموقراطية الإسرائيلية»، ولشرعنة الفساد، فضلاً عن أنها تأتي لدواع شخصية فقط.
تفكك قوات الاحتياط سيفضي إلى المس بقدرة «إسرائيل» على مواجهة التحديات في الساحتين الفلسطينية والإقليمية
تفكك الجيش
وقد باتت الاحتجاجات الجماهيرية الرافضة للإصلاحات القضائية التي تشارك فيها قوى سياسية ومنظمات شعبية وأطر طلابية تهدد وجود عدد من المؤسسات الحيوية التي يعتمد عليها الكيان الصهيوني في بقائه، مثل مؤسسة الجيش.
فنظراً لأن معظم المشاركين في الاحتجاجات هم بالأساس ضباط وجنود في قوات الاحتياط، فقد لجأ هؤلاء إلى صورة خطيرة من صور الاحتجاج تتمثل في التوقيع بشكل واسع على عرائض يعلنون فيها التزامهم بالتوقف عن أداء الخدمة العسكرية في حال أصرت الحكومة على المضي قدماً في تمرير الإصلاحات القضائية.
ومما يفاقم هذا التطور خطورة، حقيقة أن «إسرائيل»، وبخلاف جميع دول العالم، تعتمد في أداء جهدها الحربي على قوات الاحتياط وليس القوات النظامية، حيث إن 70% من الجهد الحربي يقع على كاهل ضباط وجنود الاحتياط.
ولا خلاف على أن وفاء الموقعين على هذه العرائض بالتزاماتهم يعني تهديد وجود الكثير من الأذرع الحيوية في الجيش، أو على الأقل تقليص فاعليتها إلى حد كبير.
فضمن آلاف الموقعين من ضباط الاحتياط على هذه العراض، المئات من الطيارين في سلاح الجو، الذي يعد القوة الضاربة لـ«إسرائيل»، حيث يضطلع ضباط الاحتياط في هذا السلاح تحديداً بدور مركزي، فحسب نير دفوري، المعلق العسكري في قناة «12»، فإن معظم عمليات القصف التي ينفذها سلاح الجو «الإسرائيلي» في سورية وغزة، على سبيل المثال، يضطلع بها ضباط في قوات الاحتياط.
شركات تقنية كبرى تدر سنوياً أكثر من 8 مليارات دولار غادرت السوق «الإسرائيلية»
وذكر موقع «واللاه» أن ممثلي الطيارين في قوات الاحتياط أبلغوا رئيس هيئة أركان الجيش هرتسلي هليفي خلال اجتماعه بهم مؤخراً بأن الكثيرين منهم سيتوقفون عن قيادة الطائرات الحربية في حال تم تمرير الإصلاحات.
ونقل الموقع عن الطيارين قولهم لهليفي: «هناك تصدع في الثقة بصناع القرار، تحديداً بمجلس الوزراء المصغر في كل ما يتعلق بالإجراءات التي تسبق إصدار التعليمات للجيش».
وقد انضم إلى المهددين بالتوقف عن أداء الخدمة العسكرية ضباط وقادة كبار في منظومة العمليات الخاصة التي ينشط المنضوون في إطارها في تنفيذ عمليات عسكرية «خلف حدود العدو»، وضباط في الوحدات الخاصة، ووحدة الجسس الإلكتروني المعروفة بـ«8200»، التي توصف في تل أبيب بأنها «درة تاج» المؤسسة الاستخبارية، وتعد المسؤولة عن تنفيذ الهجمات السيبرانية في الفضاء الإلكتروني، وأذرع أخرى.
ومن نافلة القول: إن تفكك قوات الاحتياط سيفضي إلى المس بقدرة «إسرائيل» على مواجهة التحديات الأمنية في الساحتين الفلسطينية والإقليمية.
وإن كانت قناة التلفزة «الإسرائيلية» الرسمية قد نقلت مؤخراً عن قيادات عسكرية تشكيكها في قدرة الجيش والأجهزة الأمنية على مواجهة تفجر الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية والقدس وفلسطين الداخل، سيما خلال شهر رمضان أو أثناء الأعياد اليهودية بسبب محدودية القوى البشرية المتاحة للتصدي لهذا «الخطر»، فإن وفاء المنضوين في إطار قوات الاحتياط بتهديداتهم سيجعل الأمور أكثر صعوبة.
وعلى صعيد التداعيات الاقتصادية للإصلاحات القضائية، فإن الأوضاع تبدو أكثر مأساوية، فخوفاً من أن تمس الإصلاحات القضائية بالبيئة الاستثمارية، أعلن عدد من الشركات الكبرى مغادرتها السوق «الإسرائيلية»، فضلاً عن أن 20% من هذه الشركات قد سحبت ودائعها من البنوك، وحسب مديري البنوك في «إسرائيل»، فقد تضاعف نقل الحسابات من بنوكهم إلى الخارج عشر مرات منذ الإعلان عن الإصلاحات القضائية، وقد تراجعت قيمة العملة المحلية (الشيكل) بشكل كبير أمام الدولار؛ مما جعل «الإسرائيليين» يسحبون أسهمهم من صناديق الاستثمار التي تتعامل بالشيكل.
ومما زاد الأمور تعقيداً حقيقة أن معظم الشركات التي غادرت السوق «الإسرائيلية» أو تلك التي تهدد بمغادرته تعنى بالتقنيات المتقدمة والسايبر مما سيفضي إلى تباطؤ النمو الاقتصادي، حيث إن صادرات هذه الشركات تدر على «إسرائيل» سنوياً أكثر من 8 مليارات دولار.
قصارى القول: إصلاحات نتنياهو القضائية والاحتجاجات عليها تدلل بشكل لا يقبل التأويل على أن الكيان الصهيوني يمر في مرحلة تراجع وضعف غير مسبوقة، وقد يمهد هذا إلى تفككه في حال واجهه مشروع نهضوي عربي أو إسلامي شامل.