الكتاب في الأصل رسالة علمية للماجستير تقدم بها الكاتب لجامعة تكساس، وقد كتبها بطبيعة الحال باللغة الإنجليزية، لكنها لم تترجم إلى اللغة العربية إلا عام 2013؛ أي بعد وفاة المؤلف بنحو 18 عاماً، فالكاتب لم يحرص فيما يبدو على ترجمتها وتقديمها للقارئ العربي.
ولا أدري على وجه التحديد ما الذي جعل الوردي يعزف عن ترجمة رسالته للقارئ العربي، لكنني من خلال قراءتي للكتاب استطعت أن أقترب من معرفة الباعث على ذلك، وهو ما سأكشف عنه فيما يلي من هذه القراءة.
التفسير المادي للتاريخ
كان أول ما لاح لي أثناء قراءة الكتاب وأيضاً ما ثبت عندي بيقين بعد انتهائي منه، هو أن الباحث كان واقعاً تحت ضغط التفسير المادي للتاريخ، بل هو البوصلة الموجهة لمسار البحث؛ فالصراع بين الشيعة والسُّنة في تصوره هو صراع بين الصحراء والأرض الزراعية.
والسُّنة فيما يرى هم الذين حصلوا على منافع كبيرة من الإمبراطورية الإسلامية، بينما يمثل الشيعة الطبقات الفقيرة التي تدفع الضرائب الباهظة التي باءت بالمنزلة المتواضعة.
وهو ما جنح بالكاتب لتطبيق النظرية الداروينية القائلة بأن حركة التاريخ مشدودة إلى فكرة الصراع من أجل البقاء، وأن البقاء للأصلح حيث طبقها على ما درسه من حياة الإسلام، فمحدودية الغذاء ومصادر الإنتاج هي التي ألجأت البدوي في الصحراء إلى الإغارة كوسيلة للعيش، وأن الإغارة عادة معترف بها بين قبائل العرب، والإسلام لم يقو على تعديل هذا السلوك الفج لديهم، فشرع الجهاد لإشغالهم، بل إن الجهاد كان الطريقة المثلى لاجتذاب البدو إلى الإسلام، وأن الذين اعتنقوا الإسلام فعلوا ذلك لغرض دنيوي لا لغرض أخروي.. هذا ما نقله المؤلف من قول المستشرق الألماني شاخت، يعقب الوردي على قول شاخت بقوله: إن أي دين لا يستطيع أن يخلو إلى الأبد من الملوثات الدنيوية.
كان يمكن لهذه العناصر أن تكون ذات بُعد موضوعي لو لم يتجاهل الكاتب جملة من الأخلاق والقيم والأهداف الحضارية التي فتح بها المسلمون البلدان، وما نشروا فيها من قيم العدل والمساواة، وما رفعوا فيها عن شعوب هذه البلدان من آصار العبودية، كما تجاهل دور أحكام الشريعة في تنظيم هذه المجتمعات في التعليم والقضاء وتوزيع الثروات، فكان من هذه الشعوب سواء من دخل في الإسلام منها أو لم يدخل فيه عباقرة أسهموا إسهاماً فاعلاً في المجتمع الإسلامي الآخذ في التطور.
سراب المرجعية
الأمر الآخر الذي لا يقل أهمية عما تقدم هو اضطراب المرجعية، حتى لقد أبلغها أن تكون كالسراب لا تروي ظامئاً ولا تشفي غليلاً، وهو أمر بالغ التأثير كما هو معلوم في بناء الفكرة وجديتها وتماسكها وجدارتها بالثقة.
ففي الوقت الذي ينتقد فيه سلسلة أعمال أحمد أمين التاريخية من حيث إنها ليست عملاً سوسيولوجياً على الإطلاق، وإنها معيارية خاضعة لمنظومة قيمية تشجب أفكاراً وتمجد أخرى(1)، لكنه في المقابل يعتبر من المراجع المركزية في دراسة الوردي.
فنقده لأحمد أمين، وأيضاً الإسراف في الرجوع لسلسلته، أمران يستحقان النظر والمناقشة، فهما يدلان على الاضطراب في المرجعية، كما أن الرجوع لهذه السلسلة وجعلها عمدة المراجع العربية على ما تشتمل عليه من جودة التأليف والتصنيف وما اشتملت عليه من نظرات ثاقبة في بعض مناحي التاريخ الإسلامي وأيضاً التجديد في تناوله، إلا أنه لم يسلم من جنوح عن الحقيقة في بعض الأطروحات المركزية فيه التي ظلت إلى زمن أحمد أمين ملتقى أبحر الدراسات؛ أقول: إن هذا الإسراف في الرجوع لأحمد أمين هو أيضاً قصور في المرجعية، ودعني أذكر أبرز علامات الانحياز لديها، ومنها:
يكفي في بيان هذا الجنوح اتهامه العقل العربي بالضعف والسطحية، مقارنة برجاحة العقل اليوناني، حيث إنه يرى أن العقل اليوناني إن نظر إلى شيء نظر إليه ككل يبحثه ويحلله، أما العقل العربي فيطوف حوله فيقع منه على درر مختلطة الأنواع لا ينظمها عقد، ودليله في ذلك قول المستشرق دبي لاسي أوليري: إن العربي ضعيف الخيال جامد العواطف.
هذا عدا ما فيه من آراء تاريخية استشراقية عريقة تنحي إلى ترويج بعض المغالطات حول التاريخ الإسلامي، كزعمه أن أبا ذر قد اعتنق رأي مزدك في اشتراكية المال، وأيضاً تشكيكه في أبي هريرة والبخاري.
هذا عدا عن اكتفائه بهذه السلسلة عن الرجوع إلى المراجع الأصلية فيما أورده من الوقائع والأحداث التاريخية.
المركزية الغربية
من الأركان التي بنيت عليها أفكار الكتاب، بل والحاكمة على منهجه؛ هو محاكمة التاريخ الإسلامي للتاريخ الغربي وتاريخ الكنيسة بالتحديد، حتى عد المؤلف معضلة التاريخ الإسلامي هي نسخة مكررة مما أسماه معضلة الكنيسة.
فهو، مثلاً، يرى وجود تشابه كبير بين سوء أحوال الموالي في الإمبراطورية الإسلامية الذين لجؤوا إلى التشيع كرد فعل على مضطهديهم ورعايا الإمبراطورية الرومانية الذين لجؤوا إلى المسيحية، بل إنه قد شبههم بالزنوج في الولايات المتحدة الأمريكية الذين ذاقوا نير التمييز العنصري، أتصور أن هذه المقارنة ظالمة وفيها الكثير من التجني، حيث إن الشيعة في الدولة الإسلامية قد خاضوا صراعاً سياسياً، ونالهم شيء من الاضطهاد، لكنهم تمتعوا بمعظم حقوقهم التي كفلها لهم الإسلام، لدرجة أنهم قد شاركوا في إدارة الدولة وتقلدوا مناصب قيادية رفيعة فيها، بالإضافة إلى قيامهم في ظلها بمزاولة نشاطهم الفكري والديني، فلا أتصور وجود وجه للمقارنة بينهم وبين رعايا الإمبراطورية الرومانية الذين تعرضوا لأبشع صور الإبادة والتعذيب، أو الزنوج الذين فتك بهم التمييز العنصري واستعبدهم بل وأفقدهم كرامتهم الإنسانية.
الواقعية المفرطة
من البين أيضاً أن الكاتب منحاز إلى الواقعية في المنهج الذي سار عليه في تناول التاريخ الإسلامي، وهو ما قد يوقعه في تناقض، فمعضلة الواقعية التي وصم بها التاريخ الإسلامي في الحقيقة هي معضلة الكتاب، فقد أسرف في النظرة الواقعية للتاريخ الإسلامي متجاهلاً طبيعة الإسلام الروحية والعقائدية، وهو ما حدا به إلى انتزاع أي تميز أتى به الإسلام أو تغيير أحدثه، فقصاراه أنه تكرار لصراع الكنيسة، هذه النظرة الواقعية المفرطة ظهرت مؤشراتها فيما يلي:
– الواقعية المفرطة عند السُّنة في محاولتهم الدفاع عن الحكومات غير المتدينة، وتشبيهها لمسار الأحزاب اليوم وطبيعة الصراع السياسي بينها.
– نفيه لبعض ما صح من نصوص الإسلام واعتباره أنها تلفيق، مثل أن التعدي على حدود الله سيزيد يوماً بعد يوم، وأن الخلافة ستتحول إلى ملك عضوض، وما ورد في هذا السياق من أحاديث وآثار، وهو ما لا يتوافق مع المنهج الواقعي الذي سار عليه.
– استحالة تطبيق الشريعة الإسلامية في عامة الظروف، وأن الوصول إلى ما أسماه بالمنطقة الذهبية وهو التوازن بين الديني والدنيوي أمر متعذر.
– تجاهل الاعتقاد الإسلامي القاضي برفع عيسى عليه السلام، حيث إنه قد زعم أنه قد مات وهو ما ينافي التصور الإسلامي، فالواقعية لديه تجاهلت ما لا يتوافق معها.
تغييب المرجعية الشرعية
والكاتب بطبيعة الحال في بحثه السوسيولوجي عن الإسلام من خلال الحيز الذي عمد إلى بحثه فيه، لا شك أنه سيلامس أو يقترب من بعض المناحي الشرعية الخاصة بالتصور الإسلامي، وقد وجدت في هذا الصدد أن الكاتب لا يحفل بالفهم الكافي لهذه المناحي، بالإضافة إلى أنه أصلاً لم يرجع إلى المرجعية الإسلامية الأصلية، وإنما مرجعيته كانت تتراوح بين الدراسات الاستشراقية والمراجع العربية الحديثة؛ مما أدى به إلى التصوير الخاطئ لها أو القاصر عن حقيقتها على أحسن تقدير، ومن الأمثلة على ذلك:
الوصف المختزل المنقوص للإجماع، وأنه لم يوجد إلا لتبرير الطاعة العمياء للحكومات وإن كانت فاسدة، وهو ما يسفر عن المنحى الواقعي عند أهل السُّنة والقاضي باستحالة تغيير التاريخ عن مساره، وهو ما قد يسمى أيضاً بالفكر الجبري.
والحقيقة أن هذا الموقف من الإجماع يمثل اختزالاً صارخاً له وتجاوزاً للكثير من التباينات الفقهية حوله وعلى أسسه وبواعثه، وعلى أقل تقدير التعريف به تعريفاً كافياً من المرجعية الشرعية، كما أنه تجاوز لكون الإجماع إحدى أهم ميزات البناء الفقهي في الإسلام، وإحدى أهم أدوات التماسك المنهجي فيه والقائم على الاستقراء والتتبع.
أما الناسخ والمنسوخ وهي العملية التي تعني رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر، التي لها أهمية كبيرة عند علماء الإسلام، إذ بها تعرف الأحكام ويعرف ما بقي حكمه وما نسخ، فإن الكتاب قد افترض أنه بسبب استحالة الوصول إلى المثالية والتوازن بين الديني والدنيوي، ولوجود التضارب بين مبادئ الشريعة والواقع بدأ مصطلح الناسخ والمنسوخ بالظهور في المدينة المنورة، وهو ما ينافي الحقيقة الشرعية التربوية وطبيعة المرونة في أحكام الشريعة الإسلامية التي كفلتها مبادئ الشريعة التي منها الناسخ والمنسوخ.
ومن الموضوعات اللافتة في الكتاب موقف الكاتب من الجهاد في الإسلام، هذه الشعيرة التي يعود لها الفضل في انتشار الإسلام والتوسع الإقليمي له، الذي له في الإسلام أحكام خاصة لتنظيمه، بل قد تجلت فيه الكثير من معاني الرحمة والانتماء والبطولة والتضحية.
يبدو أنه كان من التسرع والقفز على الحقائق تفسير الكاتب لحركة الجهاد في الإسلام وفق المنظور الواقعي الذي تبناه بأنه لاجتذاب البدو وإشغالهم، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قد جرى مع البدو استجابة لقيمهم النفعية.
الإسلام والسياسة
من القضايا المركزية في الكتاب هو موقف الإسلام من السياسة أو حظ السياسة من الإسلام، فالكاتب يؤكد في مقدمة الكتاب أن ثمة اختلافاً بيِّناً بين الإسلام والمسيحية في كون الإسلام تجسيداً لنظام كامل للحياة، فهو ظاهرة دينية سياسية، وهذا القدر من التصور حول الإسلام قد يكون متفقاً بين الكثير من الفرقاء حول هذه القضية.
في حين أنه اعتبر أن مرتكز الصراع في الإسلام ومحور المعضلة فيه في عدم تمكن الإسلام من التوفيق بينه وبين السياسة، حيث جعل الكاتب من الدين والشريعة تعاليم لله والسياسة تعاليم قيصر.
بل لقد أكد أنه من الخطأ اعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان رجل دولة، فإن أقصى مبلغه من السياسة هو التنظيم العسكري(2).
وهذا أيضاً إطلاق يشتمل على نظرة قاصرة للسيرة النبوية ومتجاوزة لكثير من الحقائق فيها، ويحق لنا في هذا الصدد أن نتساءل عن تلك الأدوار والفعاليات والأحداث المكتظة بالدلالات السياسية في السيرة النبوية، من مثل:
– بيعة العقبة الأولى، وبيعة العقبة الثانية، وما تشتملان عليه من دلالات سياسية وبنود اشتملت على أبعاد سياسة إستراتيجية منظورة.
– العلاقات الدولية وبعث السفراء واللقاء بالوفود، وهي تصرفات تنبثق عن كيان سياسي.
– وثيقة المدينة التي هي بمثابة الدستور في الدولة الحديثة وما اشتملت عليه من طبيعة تنظيم العلاقة بين رعايا دولة المدينة؛ بين القيادة والرعية، وبين المسلمين والمشركين وأهل الكتاب.
وفي موضوع آخر، فإن القول بالإجماع حسب التصور الفقهي في مسألة ما يعتبر من أعصى الأمور وأصعبها لاحتياجه إلى عملية استقراء مضنية، فمن المجازفة إطلاق الكلام على عواهنه فيها، وقد زعم المؤلف إجماع أهل السُّنة على وجوب طاعة الحكومات حتى لو كانت ظالمة، وقد تمايز الشيعة عنهم في المسألة، حسب المؤلف، حيث ذهب إلى أنهم دعاة ثورة تأكيداً على ميزانه الاجتماعي في الواقعية والمثالية(3).
بينما المؤلف نفسه في كتابه «منطق ابن خلدون» يذكر غير ذلك، حيث قال: وقد اتخذ الثوار مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حجة بأيديهم في خروجهم على الحكام، وكان كثير من أئمة الفقه يؤيدونهم في ذلك، ثم يقول: فالمعروف عن الإمام أبي حنيفة مثلاً أنه كان من أولئك الذين يرون الثورة على السلطان الظالم.. مهما تكن الحال، فنحن نستطيع أن نستنتج أن الخروج على السلطان الظالم كان أمراً مقبولاً إلى حد ما في صدر الإسلام، ولهذا وجدنا ذلك العهد يعج بالثورات(4).
وبهذا يسقط الوردي في «منطق ابن خلدون» مدعاه في الإجماع الذي في سوسيولوجيا الإسلام.
ثراء سوسيولوجيا الإسلام المعرفي
أنا على يقين بأن موضوع سوسيولوجيا الإسلام موضوع غني بالأفكار والأطروحات، لكنه في تناول المؤلف بدا فقيراً فيهما، ربما يعزى هذا إلى حداثة الموضوع، بل ربما يكون المؤلف أول الدارسين له، أو لعله يعزى لضيق أفق المؤلف، أو ربما وهو الأمثل في تصوري أن المؤلف غازل جامعته بهذا الكتاب وما تحمله من توجهات البحث الاستشراقي حول الإسلام، لهذا جاء البحث متماشياً في طروحاته مع الافتراض الاستشراقي.
ثم إن المؤلف وإن كان قد حدد له زاوية من الإسلام للنظر إليها من منظار سوسيولوجي، إلا أنه فيما أرى قد حجر واسعاً، حيث إنه تكلف الفروض في المثالية والواقعية، وابتذل المرجعية وزاغ عن سواء المنهج، وكانت دراسة سوسيولوجيا الإسلام أقرب إليه مما يتوقع.
فقد تجاهل ما تمخض من الطابع المؤسسي للإسلام من تطور في مؤسسات الدولة ونظام الحكم والعلاقات الاجتماعية التي أفرزتها من حركة الفتوح وانتشار الإسلام في القوميات والأعراق، بالإضافة إلى أنه تجاهل الطابع الاجتماعي في المدارس العلمية والتعايش بين المذاهب والفرق والطوائف.
وقد تفطن لجملة هذه القضايا الباحث أرمادو سلفاتوري، في كتاب «سوسيولوجيا الإسلام»، فقد درس على سبيل المثال كيف توسع الإسلام بيسر ليس بالقوة العسكرية، وإنما بخليط الجاذبية والراحة والرعاية عبر فعالية اعتناق الإسلام، إذ إنه لغة اجتماعية وأخلاقية متجاوزه الحيز الإقليمي(5).
لجملة هذه اعتبارات التي تمخضت من القراءة التحليلية لسوسيولوجيا الإسلام لعلي الوردي، أعتقد أنه كان ينبغي للناشر أن يحترم رغبة المؤلف بعدم تقديم الكتاب للقارئ العربي، بل ربما والله أعلم أنه كان يطمع في أن تكون قصية عنه، حيث ظلت متوارية عنه منذ عام 1948 إلى وفاته عام 1995، وقد دفع بعدها بعشرات الدراسات والكتب والمقالات كيف لم يقدم على نشر هذه الدراسة للقارئ العربي؟ لا شك بوجود ثمة أسباب وجيهة لهذا الامتناع من تقديمها للقارئ العربي، وما تقدم هو توقعي لما سكت عنه المؤلف.
_________________________
(1) دراسة سوسيولوجيا الإسلام، الوردي ص48.
(2) المرجع السابق، ص108.
(3) المرجع السابق، ص74.
(4) منطق ابن خلدون، الوردي، ص98.
(5) سوسيولوجيا الإسلام أرماندو سلفاتوري، ص147.