العمل ميزان تقدم الأمم، وإتقانه مقياس حضارتها؛ إذ يعكس لنا طبيعة البيئة ويعبر عن قيم المجتمع، ويسهم في بنائه اقتصادياً، ويقدم نموذجاً إيجابياً للفرد كعضو فاعل داخله.
والحرف التقليدية كانت ولا تزال جزءاً لا يتجزأ من مكونات الحضارة، وركيزة رئيسة من ركائز بناء المجتمعات.
ومع ظهور الإسلام، جاهد الرسول صلى الله عليه وسلم لتغيير المفاهيم الخاطئة لدى العرب عن الحرف؛ سواء بالتوجيه الكريم منه مباشرة أو بتطبيقه بنفسه صلى الله عليه وسلم لبعض الأمور التي تخالف تلك المفاهيم عند العرب؛ حتى يرى أصحابه منه، وبالتالي يقتدون به وينقلون ذلك إلى الناس.
وحث الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه على الكسب والعمل باليد، وطلب الرزق، وروي عنه أنه قال: «لأن يَحتطب أحدكم حُزمة على ظهره، خير من أن يسأل الناس أعطَوه أو منَعوه»، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَا كَسَبَ الرَّجُلُ كَسْبًا أَطْيَبَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال: «لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَا حِرْفَةٍ تَعَيَّشَ بِدِينِهِ».
ويضاف إلى تقديره لقيمة العمل الحرفي واليدوي، والزراعي والصناعي، إفساحه المجال أمام المرأة المسلمة ليكون لها حضورها في بناء الاقتصاد الإسلامي، فقد جاء الإسلام بتكريم المرأة، وأعلى من شأنها، وأعطاها حقوقها، ومن ذلك الحق في العمل الذي يتيح لها الإسهام في بناء المجتمع المسلم.
ويُروى في الأثر عن النبي صلى الله علي وسلَّم أنَّه قال لأم بشر الأنصارية: «مَن غَرَسَ هذا النَّخْلَ؟ أَمُسْلِمٌ أَمْ كَافِرٌ؟»، فَقالَتْ: بَلْ مُسْلِمٌ، قالَ: «فلا يَغْرِسُ المُسْلِمُ غَرْسًا، فَيَأْكُلَ منه إنْسَانٌ، وَلَا دَابَّةٌ، وَلَا طَيْرٌ، إلَّا كانَ له صَدَقة إلى يَومِ القِيَامَةِ»، وفي ذلك إقرار وقبول لعمل المرأة.
وكان من أشهر الأعمال التي امتهنتها الصحابيات في صدر الإسلام:
– النسيج:
النسيج حرفة ضرورية احترفها الناس منذ القدم لإيجاد الأقمشة الخاصة بالملابس، كما أنها ضرورية لوجود حاجيات أخرى من الأثاث كبيوت الأعراب (الخيام) أو البسط وما إلى ذلك من بعض الضروريات.
وكانت النساء في الغالب هن اللائي يقمن بعملية الغزل أكثر من الرجال نظراً لتفرغهن، وربما كان لانشغال الرجال في أعمال أخرى دور في ترك هذه الصناعة للنساء، وكانت النساء يقمن بالنسيج في المدينة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ورد في حديث البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: جاءت امرأة ببردة، قال: «أتدرون ما البردة؟»، فقيل له: نعم، هي الشملة منسوج حاشيتها، قالت: يا رسول الله، إني نسجت هذه بيدي أكسوكها، فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليها فخرج إلينا وإنها إزاره، فقال رجل من القوم: يا رسول الله، أكسنيها، فقال: «نعم»، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المجلس ثم رجع فطواها ثم أرسل بها إليه، فقال له القوم: ما أحسنت، سألتها إياه لقد علمت أنه لا يرد سائلاً! فقال الرجل: والله ما سألته إلا لتكون كفني يوم أموت، فكانت كفنه.
ويدل هذا الحديث على إجادة بعض النساء للنسيج في المدينة، وأنهن كن يقمن بذلك وينتجن بعض الملبوسات المنسوجة.
وقد وردت عدة أحاديث ترغّب المسلمين في تعليم فتياتهم ونسائهم الغزل، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «نِعْم لَهْو المؤمنة في بيتها المغزل».
وكانت أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها تغزل باستمرار، فقيل لها عن ذلك، فقالت: إن المغزل يطرد الشيطان ويذهب بحديث النفس، وقد بلغني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أعظمكن أجراً أطولكن طاقة»، وكان الرسول يحثّ النساء على شغل فراغهن بالغزل.
وقد ورد ذكر «الغزل» في قوله تعالى: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (النحل: 92)، وهذه الآية تدل على معرفة المخاطبين بالغزل، وتدل على أن الغالبية في الغزل للنساء أيضاً.
– الدباغة:
الدباغة حرفة تقوم على أساس إصلاح جلود الحيوانات وإبعاد الصوف والشعر منها وتليينها وتنظيفها وتبديل رائحتها لكي تكون صالحة للاستفادة منها، والمكان الذي يتم إصلاح الجلود فيه ودبغها يسمى «المدبغة».
وقد كان بعض نساء المهاجرين في المدينة يقمن بدبغ الجلود مما يدل على أنهن كن يجدن هذه الصنعة بمكة، وأنهن كن يعملنها ثم نقلنها إلى المدينة، فكن يدبغن الجلود بها أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه أسماء بنت عميس، زوجة جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، تقول: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد دبغت أربعين مناء؛ وتعني بذلك أربعين رطلاً من دباغ.
وقد ذكر عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة رضي الله عنها أنها كانت تعمل الأديم الطائفي، كما أن أم المؤمنين زينب بنت جحش كانت تدبغ الجلود وتتصدق بثمنها على الفقراء والمساكين.
– الخرازة:
الخرازة هي خياطة الجلود وتفصيلها، و«المخرز» ما يخرز به الجلد، و«الخراز» هو المحترف لخياطة الجلود وتفصيلها.
وكانت كثير من النساء تقوم بعملية «الخرازة»، فكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش ممن يجيد الخرازة وتعمل بها وتتصدق من ذلك، ويدل على أنها كانت تجيد هذه الصناعة في مكة ثم احترافها في المدينة، وربما كانت الكثير من النساء الأخريات في مكة والمدينة يُجدن هذه الصناعة.
وكانت الكثير من الحاجيات تنتج عن خرازة الجلود وهي تلبي متطلبات ذلك الزمان، وأهم ما كان يصنع من ذلك «القِرَب»؛ وهي التي تنقل فيها الماء من مكان إلى آخر، كما يخزن فيها الماء وغيره من السوائل سواء في السفر أم الحضر، عند البوادي أو الحواضر، وذلك لما تتميز به «القِرَب» من مرونة وليونة وخفة الوزن وقدرة على حفظ السوائل.
وقد وردت عدة نصوص تدل على استخدام «القِرَب» في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها هي المستعملة في حفظ الماء والسمن وغيرها، كما أنهم كانوا يصنعون المحازم والمناطق الجلدية ويحلونها، فقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم منطقة من أديم فيها ثلاث حلق من فضة وطرفها من فضة.
وكانوا يصنعون منها النعال أيضاً، بل إن هناك نعالاً تصنع خصيصاً للمرأة، فقد سُئلت عائشة رضي الله عنها: هل تلبس المرأة نعل الرجل؟ فقالت: «قد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المترجلة من النساء».
والمترجلة هي التي تتشبه بالرجال، فدل هذا الحديث على معرفة الناس في زمن النبي صلى الله عليه وسلم للأحذية الخاصة بالنساء والأحذية الخاصة بالرجال.
– الصباغة:
بالإضافة إلى النسيج والدباغة والخرازة، كانت هناك بعض العمليات التي تلحق بها من ذلك صبغ الملابس، فقد كانت الملابس تصبغ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ربما جرى الصبغ في بيوت أزواجه صلى الله عليه وسلم.
فقد ورد عن امرأة من بني أسد قالت: كنت يوماً عند زينب زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نصبغ ثياباً لها بمُغْره (أي حمرة)، فبينما نحن كذلك إذ طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المغرة رجع، فلما رأت زينب ذلك علمت أنه كره ذلك فغسلته ووارت كل حمرة فرجع فاطلّع فلما لم ير شيئاً دخل.
وقد كان صبغ الملابس يجري في الحجاز على مختلف الألوان، وذلك يقتضي وجود أصباغ معينة ومعرفة بطريقة الصبغ، وكان الرسول يقول: «عليكم بالثياب البيض فالبسوها فإنها أطيب وأطهر وكفنوا بها موتاكم»، وقد وضع البخاري في صحيحه عدة أبواب منها «باب الخميصة السوداء»، و«باب الثياب الخضر»، و«باب الثياب البيض»، وقد وردت عدة أحاديث عن الثياب الحمر وغيرها مما يدل على معرفتهم بهذه الألوان وبطريقة صبغها.
يظهر لنا مما سبق أن بناء الاقتصاد في صدر الإسلام كان بمشاركة فعلية من المرأة، بل كانت، بالإضافة إلى المشاركة، سباقة إلى الخيرات كلها، ومنها أن السيدة خديجة رضوان الله عليها كانت أول من آمن برسول الله وأخذت على عاتقها نصرة الدين الإسلامي ومؤازرة نبي الله بكل ما تملك من قوى مادية أو معنوية، وكانت سمية بنت الخياط «أول شهيدة» في الإسلام وغيرهن الكثيرات.
وإذا تابعنا المبادرات الإسـلامية الأولى، التي غيرت الحياة البشرية والواقع الإنساني، لا شـك أننا سوف نعثر على المرأة الواضعة لأولى لبناتها، وطبعاً لا يمكن أن يكون ذلك صدفة، وإنما لحكمة ربانية تشير إلى أهمية المسؤولية الملقاة على عاتق المرأة في كل عقود الحضارة الإسلامية.
فقد حقق الإسلام للمرأة المساواة الكاملة في الخلق والإنسانية، وأباح لها -وكثيرًا ما أوجب عليها- المشاركة في الشأن الاجتماعي العام، مع الحفاظ على تميز الأنوثة عن الذكورة، كي لا تتشوه الفطرة التي فطر الله الناس عليها.