منذ بداية الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ومع تواصل الثورات والهبات الشعبية ضده، فقد دأب على صب جام غضبه ضد وسائل الإعلام التي تغطي هذه الأحداث على شاشات التلفزيون والصحف والمواقع الإخبارية، بزعم أن كاميرات التصوير تثير المتظاهرين، وأن مجرد ظهور المصورين يزجّ بالفلسطينيين للشوارع.
وقد واجهت وسائل الإعلام الفلسطينية والدولية والصحفيون العاملون فيها سلسلة من الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الاحتلال، شملت الكثير من العراقيل والقيود المشددة، فبجانب العقوبات التقليدية مثل القتل، والإبعاد، والإغلاق، ومنع التوزيع، وتفعيل مقص الرقيب العسكري، والاعتقال، وفرض الإقامة الجبرية.. فقد جاءت عقوبات جديدة تتزامن مع الثورة المعلوماتية وشبكة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي.
تعتيم إعلامي
لم تكتف سلطات الاحتلال باستعداء وسائل الإعلام، والحيلولة دون أدائها لمهامها، بل انتهجت جملة من السياسات الميدانية ضدها، وتصاعدت هذه السياسة في أوقات الاعتداءات العسكرية على الفلسطينيين، حتى إن الأدوات التعريفية للصحفي من خلال الدرع المطبوعة عليها كلمة «PRESS»، أو الخوذة التي يضعها فوق رأسه، لم تحمه من الاستهداف «الإسرائيلي».
استمراراً لهذه السياسة الصهيونية من الملاحقة، فقد فرض الاحتلال رقابة على وسائل الإعلام، لا سيما المكتوبة منها، والخاضعة جغرافياً لسيطرته، بحيث تخضع موادها المنشورة لهذه الرقابة، وتشمل الأخبار والتقارير والصور ورسوم الكاريكاتير والإعلانات، حتى الكلمات المتقاطعة وأبراج الحظ، بهدف فرض تعتيم إعلامي على الأحداث السياسية والميدانية واعتداءاته على الفلسطينيين، رغم ما تحوزه وسائل الإعلام من إمكانات تقنية متطورة، إلى تغييب الصورة عن نشرات الأخبار المتلفزة، وإخفاء الجرائم التي يرتكبها، بمنع دخول الصحفيين الأجانب، وفرض طوق محكم على الأراضي المحتلة، رغبة بالاستفراد بالفلسطينيين بعيداً عن عيون الكاميرات التي ترصد جرائم الاحتلال، سعياً لاغتيال الحقيقة، والحد من قدرة وسائل الإعلام على نقلها.
كما شملت العقوبات الصهيونية ملاحقة وسائل الإعلام عبر العالم الافتراضي؛ بالسعي لحذف صفحاتها الإخبارية على منصات التواصل الاجتماعي، مثل: «فيسبوك»، و«تويتر»، و«يوتيوب»، و«إنستجرام»، و«تيك توك»، وقد اعترفت وزيرة القضاء «الإسرائيلية» السابقة آياليت شاكيد بأن «فيسبوك» استجاب لغالبية طلباتها بحذف صفحات ومواقع فلسطينية، ومنها: «صفا»، «شهاب»، و«شبكة قدس»، و«فلسطين اليوم».. وغيرها.
فيما رحب مدير قسم مكافحة اللاسامية بوزارة الخارجية غدعون باخر بقرار «فيسبوك» بإزالة بعض الصفحات الإخبارية الفلسطينية، ورفعت منظمة «هناك قانون- يش دين» الصهيونية دعوى قضائية ضد «فيسبوك»، ولجأت لمحكمة أمريكية، وجمعت 20 ألف يهودي لمطالبة المحكمة بوقف الترويج لمنشورات تحريضية على العنف وقتل اليهود.
فيما اقترح وزير البنى التحتية السابق يوفال شتاينتس وقف شبكة الإنترنت عن الفلسطينيين لأسبوعين، واجتمعت نائبة وزير الخارجية السابقة تسيبي حوتوبيلي بمسؤولي شركتي «جوجل»، و«يوتيوب»، لإنشاء آلية عمل مشتركة لمراقبة ومنع نشر المواد الفلسطينية بزعم أنها تحريضية؛ ونتيجة لذلك تم إغلاق العديد من القنوات الفلسطينية.
تعيد هذه الملاحقات الصهيونية للفضاء الإلكتروني الخاص بالفلسطينيين قرارات سابقة اتخذتها شركة الكابل الصهيونية بإيقاف بث قناة «سي إن إن»؛ بزعم تغطيتها أحادية الجانب، واستبدالها قناة «فوكس» الإخبارية بها، المنحازة للاحتلال، وقيادة الجالية اليهودية في الولايات المتحدة حملات مركزة ضد عدد من الصحف بزعم انحيازها للفلسطينيين، مثل: «نيويورك تايمز»، «لوس أنجلوس تايمز»، «شيكاغو تريبيون»، وإلغاء آلاف الاشتراكات، وموجات عديدة من التهديد وخطابات الاحتجاج، وفيضان من الاتصالات التليفونية والرسائل الإلكترونية، مروراً بتنظيم احتجاجات على أبواب الصحف، وانتقادها لعدم استخدامها كلمة «إرهاب» في وصف الفلسطينيين المسلحين.
وتحدثت المنظمات الحقوقية التي تتابع مستوى الحريات الإعلامية أن النصف الأول من عام 2022، أظهر أن الضفة الغربية وقطاع غزة، بما فيها القدس المحتلة، شهدت وقوع 247 انتهاكاً، ارتكب الاحتلال العدد الأكبر منها، بما عدده 195 اعتداء، بنسبة 79% من مجمل الانتهاكات خلال الشهور الستة الأولى من العام، أما شبكات التواصل الاجتماعي فقد ارتكبت 34 انتهاكاً بنسبة 13% من مجمل الانتهاكات الموثقة، من خلال إغلاق حسابات الصحفيين الفلسطينيين، ومحاربتها للمحتوى الفلسطيني بالتواطؤ مع الاحتلال.
تضليل في المصطلح
وكجزء أساسي في الملاحقة «الإسرائيلية» للفضاء الإلكتروني، فقد جاء استخدام الاحتلال لعدد من المصطلحات الانتقائية في الدلالة والتعبير، وهو لا يرتكز لقواعد صحفية إعلامية فحسب، بل سياسية وعقائدية في معظم الأحوال، حيث حاول الإعلام الصهيوني التساوق مع المؤسسة الأمنية التي أملت عليه عدداً من المصطلحات أصبحت، فيما بعد، جزءاً من القاموس الإعلامي اليومي.
من هذه المصطلحات الصهيونية: «يهودا والسامرة» بدل الضفة الغربية المحتلة، «المخربون والإرهابيون» بدل الفدائيين والمقاومين، «الفلسطينيون» بدلاً من الشعب الفلسطيني، ولكل من العبارتين مدلول كبير، «العمليات الوقائية» بدلاً من عمليات التوغل والاقتحام للمدن، «المستوطنون» يوصفون بالسكان، «المستوطنات» توصف بالبلدات والأحياء، «الإدارة المدنية» بدلاً من سلطات الاحتلال، «إغلاق» بدلاً من منع الدخول إلى فلسطين المحتلة، «أعمال هندسية ذات طابع أمني» بدلاً من تجريف الأراضي الزراعية، «خطوات أمنية» بدلاً من عمليات انتقام وعقاب، «عمليات إحباط موضعية» بدلاً من تصفية فلسطينيين.
رغم الإجراءات الصهيونية التعسفية بحق وسائل الإعلام والفضاء الإلكتروني، فإن الإحباط رافق الاحتلال في العديد من المحطات التي ظهرت فيها الرواية الفلسطينية هي السائدة والمتقدمة على سرديته المزيفة؛ مما دفع الاحتلال لاتهام تلك الوسائل بالتغطية المنحازة للفلسطينيين، حتى إن نائب وزير خارجية الاحتلال عيدان رول أبلغ محرري كبرى الصحف الأجنبية حول العالم بأنهم يشوهون الواقع! وأطلقت الوزارة حملة لتغيير طريقة تغطية وسائل الإعلام الرائدة في العالم للهجمات الفدائية في قلب فلسطين المحتلة، ودعتها للتوقف عن استخدام ما تصفه بـ«غسيل الكلمات»، وقد تم مخاطبة قنوات وصحف «الغارديان»، «بي بي سي»، «واشنطن بوست»، «نيويورك تايمز»، و«سي إن إن» لهذا الغرض.
مع العلم أنها ليست المرة الأولى التي يعبر فيها الاحتلال عن غضبه من الأداء الإعلامي للوسائل الدولية التي لا تتبنى روايته المشوهة للأحداث، بدليل عجزه عن تسويق روايته أمام الرأي العام العالمي، وإخفاقه في ذلك، رغم ما لديه من إمكانات هائلة، وتجنيد منقطع النظير لكل أدواته الدعائية.
لقد تمثلت آخر الاعترافات «الإسرائيلية» بما أدلى به رونالد لاودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، بقوله: إننا فشلنا بتقديم الرواية اليهودية في الإعلام بشأن القضية الفلسطينية كما يجب، بعد أن انتقلت الحرب من ساحة المعركة العسكرية إلى النضال من أجل كسب الرأي العام العالمي، والمفارقة أن «إسرائيل» تخسر هذه الحرب، وبهذا الوضع لن تبقى على قيد الحياة.
_______________________
(*) أستاذ العلوم السياسية والإعلام- جامعة الأمة- فلسطين.