في ظل انتشار وسائل الإعلام وتشكيل العقل والوجدان التي تسمى في نطاق الإعلاميين المتخصصين وسائل الاتصال الجماهيري، ومع قوة تأثير تلك الوسائل وتعدد مجالات تأثيرها من تعليم وثقافة وفنون، ومع تعرض الإنسان لها على مدار اليوم وفي كل ظرف وحال.
وهو مع كل ما سبق في مرمى الاستهداف من ملاك هذه الوسائل التي تسعى لتحقيق مصالحهم، مستخدمين هذه الوسائل لتغيير ثقافة وسلوك وعادات الإنسان دون أي حسابات إلا تحقيق مصالحهم.
وهنا يجد الإنسان المسلم نفسه دون أن يدري طرفاً في معركة هدفها تشكيل وعْيِه بما قد يخالف معتقداته، ويضر بمصالحه سواء الشخصية المباشرة أو مصالح الأمة، عبر تشكيل وعيه وسلوكه وأفكاره، وسواء كان يدرك ذلك أم لا، فهو في النهاية في مرمى التأثير من إمبراطوريات تملك موارد لا محدودة.
لأجل ما سبق، لا بد للإنسان أن يحرص على وقت يخلو فيه مع نفسه ليفكر في القضايا المصيرية في مناخ متحرر من قيود وأغلال التفكير الجمعي، الذي يحيل البشر في ظل ما عرضناه في صدر المقال إلى قطيع يتحرك حيث يريد من يديرون منظومات تشكيل الوعي.
ولذلك، وجه المولى عز وجل الإنسان المسلم في قوله سبحانه: (قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ) (سبأ: 46).
ولا أوضح مما ورد في هذه الآية من هذا التوجيه لضرورة التفكير الفردي بعيداً عن المؤثرات السلبية التي تصاحب بيئة التفكير الجمعي، فقد يجد الإنسان نفسه فيه متأثراً برأي الجموع حتى وإن كانت على غير الصواب، فربما دفعه حرج مخالفة العرف السائد من الاعتقاد أو التصرف على غير ما ترى الأغلبية، وهذا مما نهى رسول الله عنه حين قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه في الصحيح: «لا يمنعنَّ رجلًا هيبةُ الناسِ أن يقولَ بحقٍّ إذا رآه أو شهِدَه فإنه لا يقرِّبُ من أجلٍ ولا يباعِدُ من رزقٍ أو يقولَ بحقٍّ أو يُذكِّرَ بعظيمٍ».
وربما هذه المرتبة الأعلى من عدم الهيبة من مواجهة الناس بما يخالف ما يعتقدونه لا يصل إليها الإنسان إلا بعد أن يفكر منفرداً غير متقيد بما تراه الجموع.
لكن علينا أن ننتبه لمحظور آخر حين نفكر منفردين؛ وهو ألا يكون هدفنا مجرد مخالفة السائد من الأفكار، وإنما تحرِّي الحق وإلزام النفس به، ولنا أن نستعين بدائرة ضيقة أثناء التفكير (مثنى وفرادى)؛ إذ إن الحوار أثناء التفكير يثريه وربما نبه المرء لجوانب غائبة عنه، وهذا الحوار مما يفقده الإنسان عندما يترك نفسه فرداً بين الجموع حيث لا مجال للحوار.
وكم من المبادرين الذين غيَّروا مسار التاريخ لمجرد فقط أنهم فكروا بغير ما تفكر الجموع، ثم خرجوا عليه بأفكارهم التي بدت للوهلة الأولى غريبة مستنكرة، بل إن المتأمل لتاريخ الأنبياء والمصلحين سيجد هذه سُنة لم يخالفها أي منهم.
فاحذر أن تترك نفسك مع القطيع، واحذر أيضاً أن تكون مخالفة الجموع هي هدفك من الاستقلالية في التفكير، ولا تهَبْ من مواجهة المجتمع بالجديد من الأفكار، وربما كان الجديد الذي تطرحه عليهم أفكاراً قديمة، وليكن هدفك دوماً تحرِّي الحقيقة واتباع الحق.