بعد مضي زهاء 18 سنة عن تطبيق مدونة الأسرة في القانون المغربي، عادت الأصوات ترتفع من جديد من أجل إجراء تعديلات في بعض موادها، خاصة بعدما كشفت الممارسة القضائية عن ثغرات تستدعي تطبيق مقتضيات جديدة تراعي المستجدات القانونية والمجتمعية التي عرفها المغرب.
وكان الملك محمد السادس قد أشار، في آخر خطاب للعرش، إلى ضرورة هذا التعديل، معتمداً على المرجعية الإسلامية بصفته أميراً للمؤمنين.
لكن السؤال الذي يُطرح هو: هل المشكلة في المواد بعينها، أم في طرق تطبيقها، أم فيهما معاً؟
ضرورة التعديل
وتنادي بعض الأصوات من منطلق أيديولوجي بتغيير عدد من المواد دون تقديم تعديلات تنسجم مع الشريعة الإسلامية بدعوى تحقيق مصلحة ما لطرف ما، كما هو الشأن بالنسبة للدعوة إلى أسباب لحوق النسب وزواج القاصر والمساواة في الإرث وتدبير الأموال المكتسبة بين الزوجين.
وتقول د. أسماء مسرة، القيادية في منظمة نساء العدالة والتنمية لـ«المجتمع»: إن هناك دائماً حاجة لتعديل أي قانون، تتغير الظروف التي ترافق نشأته، وتتحول وتصبح أحياناً عائقاً أمام نجاعته، لكن المشكل في أن يكون التعديل ينهل من مرجعيات أخرى بدون الأخذ بأصل التأطير المنهجي الذي يؤطر مدونة الأسرة باعتبار أن مصدرها الأصلي من الشريعة الإسلامية.
وترى الباحثة المغربية د. حنان بنشقرون، رئيسة مركز إشعاع للدراسات الأسرية، في تصريح لـ«المجتمع»، أن عقدين من الزمن كافيان للتأكيد على أن هناك بعض المواد تحتاج إلى تعديل الصيغة القانونية، وأخرى تحتاج إلى مراجعة طرق التطبيق والتنزيل، كل ذلك مع الإبقاء على هدف هذه المدونة وهو حماية الأسرة بمختلف أطرافها وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
ومثال على ذلك، تبرز د. بنشقرون أنه لا بد من التمييز بين الابن الناتج عن اغتصاب أو علاقة بها شبهة، وهذه الحالة هي التي تحدث عنها الفقهاء القدامى والمعاصرون، وهي التي يمكن أن تنسحب عليها اجتهاداتهم، وبين الابن الناتج عن علاقة سفاح أو ما يعبر عنه بـ«العلاقة الرضائية» التي تتم بعيداً عن الأهل وخفية عن القانون، وهذه هي التي يناضل البعض من أجل إضفاء الشرعية على الأبناء الناتجين عنها، وهو ما لم يقبل به لا القدامى والمحدثون.
وتضيف: علاوة على أنه اعتراف بالعلاقات غير الشرعية بذريعة حماية حق الأبناء، وأول من عليه أن يراعي حقهم هم الوالدان اللذان ارتضيا اللاشرعية واللا قانونية.
وتتابع بنشقرون: وأما الدعوة إلى المساواة في الإرث وإلغاء التعصيب، فهذا أمر بيد العلماء المتخصصين في هذا المجال، وهم على كل حال مدعوون إلى الإجابة عن النوازل التي يقع فيها ظلم حقيقي على المرأة، علماً أن الحل لا يكمن بالضرورة في إلغاء النص الشرعي، وإنما لدى علمائنا من الطرق والأساليب ما يسعفهم لوضع ما ينبغي من الضوابط لتطبيق النص، ولديهم من الأحكام والاجتهادات ما يكفي لرفع ما قد يقع من ظلم على أي كان.
وتبقى المادة 49 من مدونة الأسرة، والخاصة بتدبير الأموال المكتسبة بين الزوجين بحاجة إلى مزيد من الضبط والتوضيح.
ويمكن تعديل هذه المادة وتطوير مقتضياتها بالرجوع إلى اجتهادات علمائنا في باب النوازل الفقهية، التي تزخر بفتاوى عدة تمثل المادة الخام لهذه القضية، التي يسمح الاشتغال عليها باستنباط أحكام جديدة تناسب روح العصر وتستجيب لتنوع إشكالاته، وفق تعبير رئيسة مركز إشعاع للدراسات الأسرية.
سؤال المرجعية
وتعتبر بعض الأصوات أن المرجعية الإسلامية لا يمكن أن تفرز قانوناً أسرياً قادراً على احتواء وتدبير النزاعات الزوجية في القرن الحادي والعشرين.
وتؤكد د. صالحة بولقجام، عضو منتدى الزهراء للمرأة المغربية، في حديث لـ«المجتمع»، أن سؤال المرجعية محدد بالدستور المغربي، مبرزة أن التعديل الحالي جاء بدعوة من الملك محمد السادس بصفته أميراً للمؤمنين؛ وبالتالي فإن استبعاد المرجعية الإسلامية خارج النقاش، فيما يتيح الاجتهاد في إطار الشريعة الإسلامية إيجاد الحلول الممكنة للمشكلات التي تواجه الأسر المغربية.
وتشدد د. أسماء مسرة على أن الشريعة قادرة على وضع صيغ متقدمة من خلال الاجتهاد، لأنه إن كان القصد هو تمكين الأسرة ودعمها، وحماية المرأة والحرص على حقوقها وكذا حقوق الأطفال، فإن الشريعة الإسلامية تبقى مرجعاً متقدماً يمكن أن ننزل منه لتأطير التعديل، أما إن كان الأمر يتعلق بشيء آخر كأن يكون الهدف هو تنزيل المقتضيات الدولية بدون النظر في مدى تطابقها مع هوية المملكة، فهذا يعد اختطافاً لمفهوم التعديل، وإمعاناً في ضرب قيم تؤطر سلوك المجتمع ككل.
وتشير د. مسرة إلى أن الشريعة الإسلامية غاياتها أيضاً تنظيم العلاقات بين الناس بمختلف قناعاتهم ومكانتهم، فهي بذلك قد تضع قواعد عامة فقط كما هي الحال بالنسبة للدستور في وقتنا الحالي، بحيث إنها تحدد الإطار الأمثل للحفاظ على كلياتها الخمس؛ لذلك فإن قواعد الأسرة في الإسلام توجد في خانة التوجيه العام، كما توجد قواعد جازمة ترتبط بحدود الله تعالى التي لا يجب تجاوزها.
وتفيد د. حنان بنشقرون أن المرجعية الإسلامية هي دستور حياة ومنهج تعامل، جاءت بمبادئ التوحيد والتزكية والعمران، وحملت الإنسان؛ ذكراً وأنثى، مهمة الاستخلاف في الأرض، أما القوانين التنظيمية والتدبيرية فهي متروكة للإنسان وما يتوصل إليه بإعمال عقله وبذله جهده لتسيير حياته.
خطة عملية
إن تدبير النزاعات الزوجية في القرن الحادي والعشرين لا يحتاج أحكاماً فقهية جديدة بقدر ما يحتاج خطة عملية مدروسة وإرادة تشريعية حقيقية، خاصة أمام الإحصاءات التي تؤكد ارتفاع نسبة الطلاق ببلادنا، كما تشير د. بنشقرون.
وتؤكد الإحصاءات ارتفاع نسبة الطلاق في المغرب ثلاثة أضعاف بين عامي 2019 و2022م، خاصة الطلاق للشقاق، الذي تفاقم مع انتشار وباء «كورونا» وغلاء الأسعار، مما يهدد استقرار الأسر المغربية، فيما الوسائل المتاحة للمحاكم المغربية لا تساعد على تطبيق إجراءات الصلح، كما تشير إلى ذلك د. صالحة بولقجام.
وتشدد د. بنشقرون على ضرورة استفادة المقبلين على الزواج من الحصول على شهادة معتمدة تكون ضمن الوثائق المطلوبة لعقد الزواج، مع تنظيم دورات تكوينية لتأطير الأزواج وإكسابهم مهارات تساعدهم على مشكلاتهم وتجاوزها بعيداً عن خيار الطلاق.
علاوة على ذلك، يجب تصحيح المفاهيم المغلوطة التي تؤطر تصرفات الأزواج، وتعصف بحياتهم الزوجية، ومأسسة الوساطة الأسرية وإخراجها من المحاكم، مع تفعيل دور المجالس العلمية لعمق تأثير الخطاب الديني في النفوس، وعدم إغفال جانب القيم المؤطرة للزواج التي ينبغي أن تؤطر مواد المدونة أيضاً وتعززها، مثل قيم المودة والرحمة والفضل والمكارمة.