جاء الدين الإسلامي ليحقق السعادة والرحمة للبشر جميعاً في ظل منهج ثابت تدعمه روابط اجتماعية ونفسية تضمن سلامة المجتمع ومن قبله سلامة الأسرة التي تعد حجر الأساس في بناء المجتمع بأكمله.
ومن هنا، حرص الإسلام على تحقيق السعادة والأمان للأسرة المسلمة ليحافظ على وحدة المجتمع وقوته، وذلك من خلال الكثير من العبادات التي دعا إليها الإسلام التي تحقق سعادة الأسرة وتضمن ترابطها في حال حرص جميع أفرادها على الالتزام بها لضمان السعادة في الدنيا والآخرة، حيث يقول تعالى: (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة: 38).
البداية
البداية تنطلق من مرحلة تكوين الأسرة، التي بدأت مع قول الحق تبارك وتعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً) (الروم: 21)، فالمودة والرحمة هما أساس البناء؛ حيث يجلبان معهما السعادة والأمان، ومنهما ينطلق كل فرد في الأسرة حاملاً في قلبه فيضاً من الحب الذي تجمله الرحمة لباقي الأفراد، وبهذه البداية الربانية الجميلة يبدأ الزوجان رحلتهما الدنيوية التي لا تحدها قيود النهاية، فهي الرحلة التي تبدأ في الدنيا وتمتد لما بعد الموت.
ولكن، ما الذي يضمن لها السعادة والخلود؟!
سؤال ربما يطرأ على ذهن الكثيرين الذين يحلمون بحياة زوجية سعيدة تغيب عنها منغصات الحياة ومتاعبها، وربما تكون العبادات هي النقطة التي ينطلق منها الزوجان نحو حياة زوجية سعيدة ومديدة.
فبعد يوم شاق طويل، يجتمع أفراد الأسرة ليقرؤوا القرآن ويتدارسوه فيما بينهم، فيجدون فيه الجواب الشافي لما أتعبهم خلال يومهم الطويل، بل ويمنحهم الكثير من الرضا والدعم النفسي للمواصلة والاستمرار.
فاليوم الشاق تغيب مشقته بتلاوة القرآن، وتتبدل مرارته بحلاوة القرآن، وتجتمع الأسرة صغاراً وكباراً على مائدته الزاخرة فيجدون زاداً يكفيهم ويفيض فتتبدل مشقة يومهم سعادة وهناء.
ومن أروع ما قال الحسن البصري عن السعادة: «تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الذكر، وفي الصلاة، وفي قراءة القرآن، فإن وجدتم وإلا فاعلموا أن الباب مغلق».
فبعد أن نهل أفراد الأسرة من نبع القرآن وحلاوته، تتطلع أنفسهم لمزيد من السعادة والرضا، حيث يهبُّ أفراد الأسرة للوضوء وغسل ما علق بأرواحهم وأجسادهم من أدران، ويستعدون للصلاة يؤمهم كبيرهم ليستمدوا منه القوة والقدوة الحسنة.
فوجوههم تتوجه جميعهاً نحو قبلة واحدة، وأفئدتهم تناجي رباً واحداً، وألسنتهم لا تكف عن الدعاء، وكأن ذلك الحبل الرباني الذي ربط بينهم عند تلاوة القرآن يأبى أن يفارقهم إلا وقد وثق رابطتهم وأدام ودهم، وكانت الصلاة هي سبيلهم لتوثيق هذا الرباط، وهذا ما ألمح إليه النص القرآني حين ربط الفلاح بعد الصلاة بالاجتماع إليها، فلم يقل: «قد أفلح من صلى»، وإنما قال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ {1} الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ {2} وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) (المؤمنون).
وربما تكمن أهمية الصلاة وما تحققه من سعادة في قولُ توماس هايسلوب، وهو أحد علماء النفس الغربيين، حيث قال: «إن الصلاة أهم أداةٍ عُرفت حتى الآن لبث الطمأنينة في النفوس وبث الهدوء في الأعصاب».
زاد لا ينقطع
ولا تقف العبادات عند حدود الصلاة والقرآن الكريم فحسب، بل إن الزاد الرباني لا ينقطع على مدار العام، حيث يأتي رمضان مرة كل عام لتعيش الأسرة أجواء روحانية جميلة، تغيب عنهم عاماً بأكمله لكنها تعود إليهم في هذا الشهر المبارك، فيجتمعون على مائدة الطعام مرتين مهما كانت مشاغلهم، إلا أن ذلك الاجتماع المقدس لا تعوقه مشاغل أو مشكلات، فهو أشبه بميثاق لا يستطيع أي من أفراد الأسرة أن ينقضه.
يجتمعون على مائدة الطعام، ولكن قبل ذلك تجتمع أفئدتهم على مائدة الدعاء، فيفيض كل منهم بالدعاء لأخيه بالخير والبركة وجنان خلد يجتمعون فيها بلا فراق، ومن هنا تنهل أرواحهم من فيض الطاعة زاداً يكفيهم لعام قادم، وألسنتهم تردد: «اللهم بلغنا رمضان».
وعلى الجانب العلمي، فقد أثبتت دراسة أجراها علماء أمريكيون أن التركيز الذهني الذي يتحقق خلال شهر رمضان يزيد من مستوى عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ، الذي يجعل الجسم ينتج المزيد من خلايا الدماغ، وبالتالي تحسين وظائف المخ، ويعزز صفاء الذهن ويقلل من التوتر، خاصة عندما يؤدي الصيام إلى انخفاض واضح في كمية هرمون الكورتيزول الذي تنتجه الغدة الكظرية.
وأثبتت الدراسة أنه إلى جانب ذلك، يبدأ الجسم في التكيف مع نمط الأكل والشرب الجديد، حيث تظهر مستويات أعلى من «الإندورفين» في الدم؛ ما يجعلنا أكثر يقظة وسعادة، وبالتالي إضافة دفعة لرفاهيتنا العامة.
ولا ينقطع زاد العبادات أو يقف عند رياض القرآن والصلاة والصيام، بل يتخطاها لزاد من الزكاة والصدقة امتثالاً للآية الكريمة: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (الإنسان: 8)، فكل فرد من أفراد الأسرة يحرص أن يكون له نصيب من زكاة أو صدقة، وحتى ولو ضاقت ذات اليد فيكفيه أن يتصدق بابتسامته في وجه زوج أو زوجة أو أخ أو أخت، فنبع العطاء لا يجف، ومن لا يملك المال فهو يملك فيضاً من الحب والمشاعر الطيبة يمكنه أن يتصدق بها على كل أفراد أسرته ليغمرهم بالحب الذي يحقق السعادة لهم جميعاً.
وقد نشرت صحيفة «ذي إندبندنت» البريطانية دراسة علمية أكدت أن القائمين عليها من علماء النفس في جامعة كمبريدج توصلوا إلى أن أعمال البرّ يمكن أن تكون أقصر الطرق للوصول إلى السعادة.
ففي محاولة لتفسير تناقض الحياة المعاصرة -لماذا تكاثر الأموال لا يجعل الناس بالضرورة أسعد حالاً؟!- اكتشف العلماء أن كل ما ينفقه الناس من مالهم مهمّ بنفس الكمّ الذي يكسبونه، وأن أعظم المتع على الإطلاق يمكن أن تتحقق بالتبرع بالمال، إما لشخص تعرفه أو للجمعيات الخيرية، فكم تمنحنا الزكوات والصدقات من سعادة ندركها بقلوبنا قبل عقولنا! حسب تعبير القائمين على الدراسة.
تلك منزلة علية
أما الأروع في تلك العبادات؛ فهو اجتماع أفراد الأسرة على قيام الليل حتى ولو ليوم واحد في الأسبوع، ليستمدوا من ذلك الاجتماع طاقة تعينهم على المواصلة، حيث يدركون أنه لو انقطعت بهم أسباب الأرض فأبواب السماء مفتوحة لهم على مصراعيها، تسمع شكواهم وتلبي نداءهم، وبذلك الزاد الأسبوعي يستمدون القوة والعزم على المواصلة، ويغيب عنهم الإحباط والقنوط.
قيل للحسن البصري رضي الله عنه: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: «لأنهم خلوا بالرحمن فألبَسهم من نوره».
وقد يفيض عليهم الله تعالى من كريم عطائه ليذهبوا سوياً لحج بيت الله الحرام، وهنا تتطهر أرواحهم من كل ما علق بها من آثام على مدار عمر بأكمله، فهم يرتدون ذات الثياب، ويجتمعون في ذات المكان، وتظلهم ذات السماء، وترتفع أياديهم بدعوات ودعوات عاشوا عمراً يحلمون أن تتحقق، وغاية الأمنيات أن يعود كل منهم خالياً من الذنوب كيوم ولدته أمه، تصديقاً لقول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
فقد تكون تلك الرحلة هي المداد الأكبر لكل منهم، حيث تعينه على استكمال رحلة الحياة بكل سعادة، على أمل لقاء آخر لا ينتهي إلا في جنان خلد عند مليك مقتدر.
وفي ظل عبادات متوالية تهذب النفس وتربط بين أفراد الأسرة جميعاً بروابط من المودة والرحمة والإيثار والجود ولين الجانب تتحقق السعادة للأسرة المسلمة، ويضمن أفرادها مودة لا تنقطع لأنها متصلة برب الكون وخالقه.
وبكلمات رائعة لشيخ الإسلام ابن تيمية نختم، حيث قال: «إن سعادة النفس أن تحيا الحياة النافعة فتعبد الله، ومتى لم تحيَ هذه الحياة كانت ميتة، وكان مالها من الحياة الطبيعية موجباً لعذابها، فلا هي حية متنعمة بالحياة، ولا ميتة مستريحة من العذاب».