الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
في كل عام ورمضان -ضيف الرحمن إلى عباده- قريب أن يأتي نزله، ويجتمع أهل الوادي حوله، كلٌّ يريد أن يُحسن استقباله، وأن يغنم أنسه، وأن يفوز بهديته، في محاولة من الجميع أن يلحظه هذا الضيف بعين الرضا بفعله، أو يثني عليه بجميل قوله، أو يخصه بدعاء لقراه، أو يدخر له الشفاعة التي أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه، والتقارير مرفوعة إلى العليم الخبير عز وجل، قلت: لما كان كل هذا مأمولاً وواقعاً، شغلني حال بعضنا الذي يحاول أن يفوز بكل هذا في كل مرة يأتي هذا الضيف، لكن ضعفه قائم، وعمله هزيل، وخططه دائماً لضيف الرحمن أكبر من قدراته وواقعه، فما أعظم النيات وضخامة الآمال في مقابل الأعمال ومواقع التنفيذ، ولما كانت النفوس قد أصابها ما أصابها من الوهن والفتور وخاصة مع فتن الحياة وشواغلها؛ أحببت أن أُحْيي من جديد في الأمة منهجية العمل الثابت الذي له من الدلالات القرآنية والنبوية ما يدفعنا إلى التركيز عليه للوصول لنشوة الفوز باستكمال عمل واحد ثابت بدلاً من تبددها بكثرة الأعمال التي لا تكتمل.
وأنا هنا لست خواراً أو مثبطاً لدعوات الكثيرين من مصاحبة أعمال كثيرة وفتح أبواب متعددة في رمضان وغيره لكثرة الأجور وتحصيل المنافع واستبقاء التنافس، وإنما أخاطب فئة غير قليلة من الذين لا يجيدون فعل هؤلاء من الدخول معهم في أجوائهم ببيان منهجية معالجة أقرها القرآن وأقرتها سُنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم.
منهجية العمل الثابت في القرآن الكريم والسُّنة النبوية:
إن القرآن الكريم يحدثنا في مواطن متعددة بين منهجية العمل الثابت، ومنهجية الأعمال المتعددة؛ فيخاطب الفئتين من الناس، ويؤكد أهمية الطريقين وصلاح الفعلين، فتجد لفظ القرآن متنوعاً ذاكراً تارة هذا وتارة ذاك؛ «الأعمال الصالحة والعمل الصالح»، كما في قول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) (العصر) بالجمع، وأخرى كما في قوله: (إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً) (الفرقان: 70)، (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (فاطر: 10) بالإفراد.
إنه يُذَكّر مرة بجملة من الأعمال الصالحة التي تختلف سيلانها في الأودية وتتفق في الإنبات والثمرة كما في صفات المؤمنين في أول سورة «المؤمنون»، وكما في صفات عباد الرحمن في سورة «الفرقان»، ويذكر مرة بالعمل الصالح الثابت الذي يبرز به صاحبه ويثبت عليه ويعرف به، وما أجمل أن يعنون له من خلال تذكير رسولنا صلى الله عليه وسلم بإخوته من الأنبياء عليهم السلام قبله كما في سورة «مريم»: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً) (مريم: 41)، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً) (مريم: 51)، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) (مريم: 54)، (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً) (مريم: 56)، وغير هذا في كتاب الله كثير.
وهذه المنهجية أيضاً في السُّنة المشرفة وهي داخلة في سمات تكوين شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، كما أنها من جميل توجيهاته لأمته؛ فعند مسلم عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ، وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنَ اللَّيْلِ، أَوْ مَرِضَ، صَلَّى مِنَ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً»، وكما عند البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهَا وَعِنْدَهَا امْرَأَةٌ، قَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟»، قَالَتْ: فُلاَنَةُ، تَذْكُرُ مِنْ صَلاَتِهَا، قَالَ: «مَهْ، عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ، فَوَاللَّهِ لاَ يَمَلُّ اللَّهُ حَتَّى تَمَلُّوا»، وَكَانَ أَحَبَّ الدِّينِ إِلَيْهِ مَادَامَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، بل كان صلى الله عليه وسلم يحذر من آفة هذا الذي قام على عمل وتركه ألا يكون موضع اقتداء ولا يلتفت إلى فعاله إلا على وجه المخالفة وعدم الوقوع فيما وقع فيه، فقال محذراً لعبدالله بن عمرو: «يَا عَبْدَاللَّهِ، لاَ تَكُنْ مِثْلَ فُلاَنٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ، فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ» (رواه البخاري).
وفوائد هذه المنهجية، من وجهة نظري، تكمن في النقاط التالية:
– تحقيق استشعار لذة الفوز في رمضان بثبات عمل أتمه صاحبه وأكمله على وجهه المرضي، وقد دفعته هذه المنهجية إلى التركيز عليه والانشغال الدائم به؛ فوجد لذة لم يكن يستشعرها قبل هذا عندما كان ينوي الكثير ولا يصبر على شيء مما نواه في عمله، إن أحاديث رمضان جلها تخاطب المسلم بعمل أو عملين، وتأمل معي هذه الأحاديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه» (رواه البخاري ومسلم)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عمرة في رمضان تعدل حجة» (رواه البخاري)، وعنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة» (رواه البخاري ومسلم)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصيام جُنة فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم مرتين» (البخاري ومسلم).
والأحاديث تؤكد هذه المنهجية بشكل ملحوظ، وتبني الأجر العظيم، عليه فقط التثبيت والتركيز وحسن الأداء شرط الدخول والفوز: صيام، قيام، عمرة، صدقة، ضبط أخلاق وسلوك.. إلخ.
– تقديم الكيفية المنجزة على الكثرة المشتتة: فقد وصفت لنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها نموذجاً لرسول الله ومنهجيته هذه في رمضان، فعَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، كَيْفَ كَانَتْ صَلاَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَمَضَانَ؟ فَقَالَتْ: «مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلاَ فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلاَ تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلاَثًا» (البخاري ومسلم).
وتأمل كيف أنها أكدت عمله الثابت، لكنها في مقابل هذا ذكرت كيفية أدائه صلى الله عليه وسلم له، وهذا مقصد وثمرة مرجوة مما أوصله كما قال صلى الله عليه وسلم لأن تكون، كما قال: «وجعلت قرة عينه في الصلاة»، وهذا يجعل التكليف هيناً والاستمتاع به حاضراً، والعهد بروحانياته ونوره متجدداً وقريباً، وغير هذا مما تثمره «كاف» الكيفية ما لا تنبته «كاف» الكثرة والكمية.
– دافع للنوازع النفسية والضغوط الحياتية والضعف البشري: فمع كثرة الضغوط وضعف المنافسة تأتي هذه المنهجية حلاً رائعاً لأصحاب هذا الأمر، وانظر حال هذا الذي دفعته معرفته بنفسه وإدراكه لضعف بشريته كيف سأل وكيف أجيب ومقررات سؤله وجوابه، فعند البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولِ اللهِ، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ، قَالَ: «تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ»، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئًا أَبَدًا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهُ، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنَّ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا»، عمل يدخله الجنة؛ عمل واحد ثابت يستطيع أداءه والثبات عليه والخروج به من دائرة المقاييس البشرية والمنافسة التعبدية فلم يجد له النبي تقديراً لطلبه غير تذكيره بأركان إسلامه، علماً بأنها جميعاً لا تستوجب حضوراً يومياً غير صلواته، وبقيتها عمل سنوي مشروط بشروط.
– تسطير عنوان لك تُعرف به في الأرض والسماء: فقد اجتهد الكثيرون في أعمال كثيرة، لكن يبقى عندهم من ثوابت العمل ما جعلوه عنواناً لهم عُرفوا به في الأرض، وأخبر عنهم به أهل السماء، وما المرأة التي كانت تضيء المسجد، وركعتان لبلال بعد كل وضوء، وبر أويس القرني بأمه، إلا نماذج لهذه المنهجية الثابتة في حياتهم.
وأخيراً، فالعمل الثابت مُنجٍ من الابتلاءات والمحن: ألا ترى معي كيف نجا أهل الغار من صخرتهم إلا بصلاح العمل أو ثباته، فعند مسلم عنَّ عَبْدَاللهِ بْنَ عُمَرَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلَى غَارٍ» وَاقْتَصَّ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: «اللهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا وَلَا مَالًا..» «فَخَرَجُوا مِنَ الْغَارِ يَمْشُونَ».
قد نحتاج إلى إعادة إحياء منهج البسطاء والعوام في الأعمال والأوراد الثابتة، يبقى أحدهم عليه حتى يلقى الله به، ونرى من حسن خواتمهم ما تنطق به الأحوال وتؤكده الجنائز، ثبّت عملك في رمضان واصحبه بعده، فرب عمل صالح ثابت واحد عُرفت به في الخلق عنواناً لك، وذُكرت به في الملأ الأعلى دليل قبوله منك؛ ففزت به بجنان الله ورضاه.