مر بالأمس القريب احتفال «يوم المرأة العالمي»، وكالعادة يتلازم ذلك مع الدعوة لتمكين المرأة وتعليمها ومشاركتها الفعّالة في المجتمع، وبالتوازي يصر فصيل من التيار النسوي على المطالبة بمساواة «حسابية» بين المرأة والرجل، ولا ينسى أن يتهم الثقافة الإسلامية بقمع المرأة.
والحقيقة أن كل الموروثات الاجتماعية التي تحرم المرأة من حقوقها ليست مبنية على فهم صحيح للدين وسُنته المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وسنضرب مثالاً تاريخياً ممتداً بسيرة المرأة راوية الحديث والمفتية والشيخة التي تتلمذ على يديها كبار الأئمة.
لقد أعلن نبي الإسلام منذ خمسة عـشر قرناً حقوق المرأة كاملــة لأول مــرة فــي التاريخ، وتمتعت المرأة بكل مـا يعرف بحقـوق الإنـسان، قبـل أن تعـرف الـدنيا منظمـات حقوق الإنسان ومواثيقه.
وعاش الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقون منه مباشرة أحكام الدين، فهو المصطفى الموحى إليه من رب العالمين، يقول الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (آل عمران: 31)، ثم برحيل النبي صلى الله عليه وسلم بدأ الناس يتجهون إلى الصحابة والصحابيات الذين كانوا قريبين من الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلموا منهم السلوك الإسلامي الصحيح ويستفتوهم فيما يختلط عليهم من أمور دينهم.
وقد لخص الإمام النووي في «آداب الفتوى والمفتي والمستفتي» شروط المفتي أو الموقع عن رب العالمين: «شَرط الْمُفْتِي كَونه مُكَلّفاً مُسلماً ثِقَة مَأْمُوناً، متنزِّها عَن أَسبَاب الْفسق وخوارم الْمُرُوءَة، فقيهَ النَّفس سليمَ الذِّهْن رصينَ الفِكر صَحِيح التَّصَرُّف والاستنباط متيقظاً، سواءٌ فِيهِ الحرُّ وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة»، ولقد عرف صدر الإسلام مساهمة رائدة للمرأة كراوية للحديث وفقيهة وقائدة رأي، وسنكتفي بمثلين فحسب من نساء النبي صلى الله عليه وسلم: عائشة، وأم سلمة، رضي الله عنهما.
عائشة.. الراوية وفقيهة عصرها
مارست أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها دورًا رائدًا في نقل أمانة العلم الديني، فهي الزوجة الأقرب من نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تمتعت بصفات النبوغ في قرض الشعر والذاكرة القوية والفهم المتقد، إلى جانب صلاحها وورعها وحبها للمساكين، كما تعلمت ووعت ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال في حياته: «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء».
وكان الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري يقول عنها: «ما أشكَل علينا أصحابَ رسول الله حديثٌ قط، فسأَلنا عائشةَ إلا وجَدنا عندها منه عِلمًا» (سنن الترمذي، كتاب المناقب، فضل عائشة).
وقد كان عروة بن الزبير ثمرة من ثمرات خالته عائشة ومن تلاميذها النجباء، وبلغ من علمه أن كبار الصحابة كانوا يسألونه عن أمور دينهم، ويروي الذهبي عن هشام بن عروة قوله: «ما رأيت أحداً من الناس أعلم بالقرآن ولا بفريضة، ولا بحلال ولا حرام، ولا شعر ولا بحديث العرب ولا النسب؛ من عائشة» (الذهبي: سير أعلام النبلاء: 2: 187).
ومجموع ما روته عائشة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يبلغ 1210 أحاديث، اتفق لها البخاري، ومسلم، معاً على 174 حديثاً.
كان من شجاعة السيدة عائشة أن قدمت استدراكات على بعض الصحابة الذين عرفوا قدرها، حتى خالفت كبارَ الصحابة واستدركت عليهم في إحدى وستين مسألة؛ جمعها الزركشي في كتابه الشهير «الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة»، ومنهم عمر بن الخطاب نفسه!
فعن عمر أنه كان يقول: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»، فكانت أم المؤمنين عائشة تقول: «رحم الله عمر، لا والله ما حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا، ولكن قال: إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه»، وقالت عائشة: حسبكم القرآن: (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: 164).
ومن ذلك أيضًا معارضتها قول ابن عمر رضي الله عنهما، بنقض المرأة شعرها إذا اغتسلت، وفتواها بعدم اشتراط مرافقة المَحْرَم للمرأة في السفر بتحقق الأمن، وفهمها العميق لمعنى الهجرة بأنها مرتبطة زمنياً باضطهاد المسلمين؛ فقد روى عبدالرزاق الصنعاني (ت 826م) أنها سُئلت: متى الهجرة؟ فقالت: «لا هجرة بعد الفتح، إنما كانت الهجرة قبل الفتح حين يهاجر الرجل بدينه إلى رسول الله، وأما حين كان الفتح فحيث ما شاء الرجل عَبَدَ اللهَ لا يضيع» ( أسماء سيد: المرأة ونقل المعرفة الدينية في الإسلام (30، 31).
ولما تولى عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة، كان أن ولى بعض الولاة الذين لم يرض عنهم أهل الأمصار فراجعوه في عزلهم، وكانوا يوسطون عائشة رضي الله عنها، التقية الورعة زوج النبي (تاريخ الطبري)، فكانت ترفض سياسته في ذلك وتنصحه، ولكنها لم تحرض ضده قط، بل كان يذهب إليها لاستشارتها، ثم لم يحدث أن حرضت ضد خلفه علي بن أبي طالب –بعد مقتل عثمان رضي الله عنه- بل بايعته وقالت للصحابة: «عليكم بعليّ» (رغم ما بها من عتب قديم عليه في «حادثة الإفك» حين نصح النبي بالتزوج بأخرى حتى برأها الله) (عثمان الخميس: حقبة من التاريخ: 176).
وفي «موقعة الجمل» التي اشتد فيها القتال بين المسلمين، بين فريق عليّ والمطالبين بدم عثمان، كانت السيدة عائشة مع الفريق الثاني ناصحة وشدت الرحال للبصرة بعد نداءات من المسلمين بالتوسط لحقن الدماء، وكان ذلك مقصدها، وليس بينها وبين علي بن أبي طالب إلا الإجلال، والمواقف في ذلك كثيرة! (الطبري: تاريخ الأمم: 3/31).
ولقد كان عليّ رضي الله عنه على علم بنيتها الإصلاحية، وغيرتها على المسلمين، فجهزها بكل شيء وأخرج معها 40 امرأة من نساء أهل البصرة، فخرجت على الناس وودعتهم وودعوها، وقالت: «ما بيني وبين عليّ إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها»، ورد عليّ: «صدقت والله وبرت، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة» (الصلابي: أسمى المطالب في سيرة علي بن أبي طالب: 532).
أم سلمة.. رجاحة عقل وتفقه
لو انتقلنا لأمنا أم سلمة زوج النبي رضي الله عنها، سنجد أنها تحل في المرتبة التالية لعائشة في عدد الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكونها امرأة فقيهة في عصرها، ولقد استرشد النبي الكريم برأيها في مواقف كثيرة، ونزلت فيها آيات قرآنية، منها: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (الأحزاب: 35)، ولما فرغ رسول الله من قضية الكتاب في صلح الحديبية، قال لأصحابه: «قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا»، فوالله ما قام منهم رجل، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم، حتى أشارت عليه بأن يبتدئ بنفسه فينحر ويحلق، فما تخلف منهم أحد! (ابن هشام: السيرة النبوية 1/468).
وحاولت أم سلمة تجنب الخوض في الحياة العامة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى كانت الفتنة الكبرى فآزرت أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب، وودت لو تخرج فتنصره، لكنها كرهت أن تبتلى، فقدمت إلى عليّ ابنها عمر ليخرج معه، وتوفيت رضي الله عنها بعدما جاءها نعي الإمام الحسين، وصلى عليها أبو هريرة رضي الله عنه، ودفنت بالبقيع، فكانت آخر من مات من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن.
أول معلمة في الإسلام
وتعد السيدة شفاء بنت عبدالله العدوية نموذجاً للمرأة في الإسلام، أسلمت الشفاء قبل الهجرة فهي من المهاجرات الأوائل وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كانت أول معلمة في الإسلام، وكانت تكتب بالعربية في الوقت الذي كانت الكتابة في العرب قليلة، ومن ضمن من علمتهم السيدة حفصة رضي الله عنها، وكان عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه يجلها ويقدرها ويأخذ مشورتها فولاها أمر الحسبة (ابن حجر: الإصابة: ج8: 10).
يلاحظ أن تصدر المرأة للفتوى كان شائعاً بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبمرور الوقت وبالتدريج بدأ الإفتاء يرتبط بالسلطة ويأخذ صيغة أكثر رسمية؛ حيث إن بعض العاملين بالإفتاء ارتبطوا بالإدارة القضائية في الدولة الإسلامية غير أن الفتاوى غير الرسمية استمرت موجودة يقبل عليها الناس.
في الحلقة القادمة ننظر كيف كان حال الفقيهات ومكانتهن العظيمة في زمن الحضارة الإسلامية.