تبدو مظاهر الاحتفاء برمضان في البوسنة والهرسك وكأنها عودة للبلد إلى حقبة ذهبيّة، حين كانت الإمبراطورية العثمانية ما زالت تحكم البوسنة، وحين كانت سراييفو العاصمة درّة مدن الإمبراطورية في امتدادها الأوروبي.
أعلام خضراء على منارات المساجد، وحركة نشطة في الجوامع، وطوابير مصطفة أمام مخابز تفوح برائحة خبز السّمون الشهي المغطّى بحبّات البركة، وروح دفء وتقارب واعتزاز تسود بين مسلمي البوسنة والهرسك.
يبدأ الاحتفاء باقتراب الشّهر الفضيل على مدار شهرين يسبقانه، إذ يقام احتفال ديني في المساجد، أو ما يدعى ب “المولد” في الجمعة الأولى من شهر رجب “ليلة الرّغائب” ثم احتفال بليلة الإسراء والمعراج، ثم احتفال بليلة النصف من شعبان “ليلة البراءة”.
ويقوم مسلمو البوسنة في الأيام السّابقة لرمضان بتنظيف المساجد، وغسل سجّادها، وتنظيف أفنيتها وساحاتها، استعدادا لاستقبال الشهر الكريم.
وليلة إعلان رؤية الهلال، يتجمّع حشد كبير من رجال ونساء وأطفال في باحة قلعة أثرية على إحدى تلال الجزء القديم من سراييفو، ويقوم إسماعيل كريفيتش بإطلاق مدفع رمضان، وما أن ينتهي حتى تطير البالونات ابتهاجا، ويتكرّر مشهد تطيير البالونات في أنحاء عدّة من المدينة.
كريفيتش يقوم بهذه المهمّة منذ ١٩٩٧، ويعتبره طقس محبّب لا يملّ منه كل ليلة من ليالي رمضان، وأصبح شخصيّة رمضانيّة معروفة.
وتنتشر في البوسنة “المقابلة”، وهي تلاوة جزء من القرآن الكريم كلّ يوم في المسجد. يجتمع النّاس إما بعد الفجر أو بعد العصر عادة، ويقوم مقرئون للقرآن بتلاوة الجزء بشكل متتالي، بحيث يتلو كلّ واحد بضع صفحات، ويقوم البقيّة بتتبّع الآيات التي يتلوها القارئ.
وتعلن المساجد الكبرى عن أسماء المقرئين الذين سيشاركون في “المقابلة” كنوع من جذب الجمهور الحريص على الاستماع للتّلاوات الجيّدة.
هذه العادة ترجع للزّمن العثماني، ويبدو أنّها استطاعت الاستمرار حتى بشكل غير معلن إبان الحكم الشّيوعي، وعادت بقوّة بعد انحساره لتنتشر في البوسنة والهرسك.
ولا بدّ من التّنويه إلى أنّ مدارس تعليم الأطفال تلاوة القرآن الكريم بصورة صحيحة والتي تسمّى بالبوسنيّة “مكتب” منتشرة في مساجد البوسنة وفي مساجد البوسنيين بالمهجر، وهذا يدلّ على اهتمام مسلمي البوسنة بالقرآن تلاوة وحفظاً، ويكرّم حافظ القرآن بلقب “حافظ” طوال حياته، فلا ينادى باسمه إلّا مسبوقاً باللقب.
وكما في كافة أنحاء العالم الإسلامي، تكون وجبة الإفطار فرصة للقاء العائلة والأصدقاء والأقرباء، وكذلك إقامة الإفطارات الجماعية في ساحات المساجد أو في الميادين العامّة، حيث لا تخلو مائدة من الشوربات التقليدية مثل بيغوفا شوربة (شوربة البيك) المكوّنة من مرق اللحم أو الدجاج المضاف للبامية والبقدونس، شوربة الكولاك (شوربة من الخضار وعجين يحتوي على لحم مفروم).
وتمتاز المائدة الرّمضانية باحتوائها على المشروبات المصنوعة من الفواكه التي تغلى لفترة طويلة وأشهرها البرقوق المجفّف والزّبيب والتّفّاح والإجاص.
ويعدّ خبز السّمون من لوازم المائدة الرّمضانية، ويحتاج إنضاجه لدرجات حرارة عالية لا توجد إلا بأفران المخابز، ومخبز “بوريتشانين” الموجود على إحدى سفوح المدينة القديمة هو الأشهر في هذا السّياق، فيلاحظ المارّة طوابير طويلة أمامه، ويعتبر البعض أن الوقوف والانتظار هناك من عادات رمضان المميزة التي يشارك فيها حتى غير المسلمين من سكّان المدينة.
تأثّر مسلمو البوسنة بشكل واضح بالأداء التّركي لصلاة التّراويح التي يصلّونها عشرين ركعة عادة، حيث يتلو الإمام آيات معدودات قبل الرّكوع، فلا تطول فترة الصّلاة كثيراً، ويعقب الصّلاة سهرة لشرب القهوة إما في المقاهي الكثيرة التي تعدّ ركناً أساسيّاً في الحياة الاجتماعيّة لمسلمي البوسنة، أو في البيوت.
هناك احتفاء خاص بليلة معركة بدر (السابع عشر من رمضان)، وتقام احتفالية يتلى فيها دعاء خاص يحتوي على أسماء كلّ الصّحابة الذين شاركوا في المعركة وليلة القدر (السابع وعشرين من رمضان) حيث يعتكف المتعبّدون، ويقام المولد الذي تنشد فيه المدائح والقصائد، ويوزّع عصير “شربات المولد” المؤلّف بشكل أساسي من القرفة والقرنفل.
رمضان البوسنة، له طعم خاص، ولذلك يعود بعض المهاجرين البوسنيين في الدّول الغربية للبوسنة لقضاء ذلك الشّهر في بلدهم، شاعرين ببهجة مختلفة ويلخّصها ما ذكره لي طالب في جامعة سراييفو عندما سألته ماذا يعني له رمضان “رمضان له معانٍ كثيرة لديّ، إنّه الشّهر الذي يأتي وأنا بأمسّ الحاجة له، لأنّه يجلب معه التّيسير. رمضان يجمع العائلات ويوحّد المسلمين، وفيه أقضي لحظاتي المفضّلة مع عائلتي وجيراني، إمّا على المائدة، أو أمام المخبز في طابور للحصول على خبز سمون دافئ تفوح رائحته في أنحاء المدينة. لحظتي المفضّلة هي انتظار المدفع الذي يمثل بداية الإفطار.
الليالي مميّزة جدّاً في هذا الشّهر، ولا سيّما في المحادثات التي تلي صلاة التّراويح أثناء عودتنا للمنزل، وساعات الليل الأخيرة التي اتقرّب فيها لله وأشعر بأكبر قدر من السّلام.
(*) صحفية بوسنوية تكتب بالعربية