يحتاج المؤمن إلى تجديد النظر في التعامل مع القرآن الكريم، ويأتي تجديد النظر عبر استئناف العمل بمنهجية التدبر القرآني التي تتجاوز الحفظ والاستظهار والتسابق إلى اعتبار القرآن كمخزن للحسنات بالقراءة المتتابعة تلو القراءة، مع اعتبار التلاوة الحقة (الصحيحة) أحد المتطلبات الرئيسة لمنهجية تدبر القرآن لدى المسلم فردًا وجماعة.
إن استئناف العمل بمنهجية التدبر القرآني تعيد للقرآن مكانته الرئيسة في أنه كتاب «هداية» لمن اتبع تلك الهداية وشروطها وخصائصها ومقاصدها، وتظهر في التزام قيمه وأحكامه والاقتداء بنماذجه، والالتزام بمفاهيمه، والانتهاج بنهجه، والسير على طريقته المثلى، ومن يفعل ذلك يتحقق فيه الهداية المرجوة ويحصل له صفة التقوى (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 2)، فالتقوى نتيجة لتلك الهداية وليست مقدمة لها، والهداية بالمعنى القرآني تعني أن ينتقل الإنسان من حال الشقاء إلى حال التقوى، ومن حال الحيرة إلى حال الاطمئنان، ومن الشك إلى اليقين، ومن الفوضى العقلية إلى منهجية الرشد، ولا يمكن أن يتحقق ذلك للإنسان إلا عبر الكتاب الإلهي: القرآن الكريم (ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) (البقرة: 2)، فهذا الكتاب المسطور هو الوحيد القادر على تحقيق الهداية الشاملة للإنسان في جوانبها المتعددة: هداية العقل أو الفكر، هداية النفس أو الوجدان، هداية السلوك أو الجوارح، وهداية الاجتماع الإنساني جملة، وهذا ليس فقط على مستوى التعاليم والتوجيهات ولكن على مستوى العمل والتطبيق والإصلاح للواقع أيضًا، وهو ما يميز التعاليم القرآنية التي تجمع بين المعيارية والواقعية، وهو الأمر الذي يتوافق أيضًا مع الطبيعة الإنسانية التي تحمل في داخلها الأشواق إلى المثل والكمال الإنساني، وفي ذات الوقت الحركة الأرضية التي تتفاعل بالحوادث والأغيار.
النماذج الـمُعلمة
الفكرة:
تأتي فكرة النماذج الـمُعلمة في القرآن -أيضًا- كإحدى آليات تدبر القرآن، وهي البحث في نماذج الاقتداء والاهتداء التي ذكرها القرآن عبر المسيرة التاريخية للإنسان، وكانت الغاية من هذا الذكر هو توحيد النماذج التربوية (الفردية والجماعية) على اختلاف مقاصد تلك النماذج وعطاءتها القيمية والتربوية في بناء المجتمع المسلم، على امتداده جغرافيًا وعرقيًا وجنسيًا، ولعل فكرة التعارف الإنساني – الإسلامي إحدى وسائلها هو تلك «النماذج الـمُعلمة» التي تعرض لخصائص الإنسان المطلوب، والآلية المعرفية لتحقيق ذلك هو «بناء نموذج معرفي صالح ومصلح للإنسان المعاصر»، ينتج عنه بالضرورة شخصية حضارية توظف طاقتها الحيوية في بناء حضاري إنساني، تتفاعل فيه الأصالة والمقومات الذاتية والتاريخية الصالحة، مع التطورات الحديثة النافعة، وهذا يعني أن يتم تشييد المجتمع المسلم وفقًا لنموذج مستقل لا مستورد أو متغرب منفصل عن الأفكار الأصلية التي يعتقد فيها أو عن الكتاب الذي يؤمن به.
القرآن المصدر الأول:
يعد القرآن هو المصدر الأصلي من بين المصادر الإسلامية الذي أسس لهذه النماذج الـمُعلمة التي تشكل المجتمع الإسلامي الأول في ضوئها، وتحول بعد ذلك إلى نماذج معلمة تجري في واقع الإنسان. قامت هذه النماذج الـمُعلمة (القرآنية) بتلبية احتياج الجماعة المسلمة الأولى في التعرف على الطريق والمنهج، والشكل والخصائص والجوهر المطلوب اتباعه من أجل اعتناق هذا الدين، ليس على المستوى النظري الذي تكفيه «لا إله إلا الله»، ولكن على المستوى تجسيد الإيمان والدين في الواقع التطبيقي والعملي.
إن القرآن الكريم خط لهذه النماذج الـمُعلمة، اصطفاها وقدمها كنموذج للمجتمع الإنساني، راعى فيها: الواقعية، وإمكانية التحقق والتكرار والتقليد والمحاكاة، وكل أفعال الاقتداء والاهتداء التي تتلاءم مع قابليات الإنسان، ومع هذه الإمكانية في التجسيد والتطبيق، شكلت مكنونات هذه النماذج الأشواق العليا للمجتمع المسلم في بيان المقاصد العليا للحياة الإنسانية، ومقاصد العبودية لله تعالى، وفي التخلق الاجتماعي والفردي، وفي طرائق التفكير الراشد، وهذه كلها محطات لازمة لتنمية القابليات الإنسانية والإيمانية لدى الفرد والمجتمع الإنساني.
يقدم القرآن هذه النماذج الـمُعلمة التي في صورة مزدوجة الشكل من حيث المعيارية والواقعية، فعلي الرغم أن هذه النماذج كانت حية ومجسدة في التاريخ البشري، إلا أنها في ذات الوقت تشكل في ذاتها معيارية ما بحسب الغرض من ذكر القرآن لها وتضمينها إياه، وهذا يؤيد فكرة أن القرآن ليس كتابًا معياريًا فقط يوجه إلى ما ينبغي أن يكون، بل يتضمن ما هو كائن أيضًا إما لإقراره إن وافق خط القرآن، أو لنقده وإصلاحه عند المخالفة. وهو ما يجعل تلك النماذج في حالة حياة دائمة، تؤثر في الإنسان في كل زمان ومكان وفي كل حال وعلى أي شكل أو صورة.
طبيعة النماذج الـمُعلمة
في ضوء فرادة القرآن في كونه كتاب هداية، وتلك الهداية قائمة على التزكية والتربية والتعليم، وأن الهداية تتعلق أول ما تتعلق بالنفس الإنسانية، مصدر التعلم الأول لدى الإنسان وجوهره، فإن القرآن الكريم لم يخط طريقًا واحدًا لنموذج الهداية، بل خط طرقًا متعددة: منها: النماذج الإيجابية للاقتداء والاهتداء، والنماذج السلبية للاجتناب التي توفر على الإنسان عواقب التجربة والخطأ، عن حذيفة رضي الله عنه: «كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني» (البخاري، 7084)، فالنماذج السلبية تقدم نوعًا من التعلم «المعكوس» إذا جاز القول، فالإنسان لا يتعلم في مناشط الخير فقط، بل يتعلم من الحوادث كلها خيرها وشرها بغية الحذر والتجنب.
كما أن القرآن ذكر أنماطًا متعددة من هذه النماذج الـمُعلمة: الفردية منها والجماعية، وذكر نماذج للرجال، كما ذكر نماذج للنساء، وللأطفال، وللأنبياء والصالحين، والسلاطين والجنود، والعامة والملأ، كما أن القرآن قدم نماذج معنوية وأخرى مادية، وقدم أفكارًا مجسِدة للمفاهيم المرجوة، وكذلك أفكارًا للمفاهيم المنبوذة، وغير ذلك في إطار منهجية النماذج الـمُعلمة للإنسان، مما يفيض به هذا المصدر القرآني الهادي، ومن ثَم يمكن للقارئ/ وللمربي أن يرسم خارطة لهذه النماذج الـمُعلمة (من حيث أنواعها) ويخط مواضعها في القرآن الكريم (الآيات- السور)، ويحدد موضوعها ومقصدها (التربوي والفكري والقيمي)، كما يخط النماذج والنماذج المضادة الإيجابية والسلبية، أو نماذج الصلاح ونماذج الفساد، أو نماذج الاهتداء أو الاجتناب.
وفيما يتعلق بمفردات هذه النماذج نقترح التصنيف الآتي:
1- أشخاص حقيقيون: ذكرهم القرآن إما للاهتداء أو الاجتناب. (كالأنبياء والمصطفين والأخيار، أو الكفار والأشرار).
2- أقوام (قوم عاد، وقوم ثمود، وقوم فرعون، وقوم مدين، وقوم لوط، وقوم إبراهيم..).
4- رموز ومعانٍ: وهي النماذج التي ذكرها للتعلم دون تخصيص أو تعيين (مثل أصحاب الكهف، أصحاب الجنة، رجل المدينة، فرعون، الملأ، رجال الأعراف..).
5- أحداث ومواقف، وهي ما ذكره القرآن للاعتبار بها أو الإعداد لها (مثل: خلق آدم عليه السلام، يوم القيامة، الغزوات..).
إن هذه النماذج إجمالًا يتحقق من وراء تعلمها ثلاثة أهداف رئيسة، هي: أهداف إيمانية وعقلية واجتماعية، كما يمكن كذلك أن يتحقق من ورائها أهداف أخرى بحسب طبيعة تلك النماذج، وما تحتويه من مشتملات ومضامين تربوية وتعليمية، وبحسب القارئ المتدبر أن يخط في دفتره القرآني ما يقابله في القراءة من هذه المفردات ويكتب ما يفيد منها في هذه الأهداف ويحدد وسائل تحققها في النفس والمجتمع والأمة، وسوف نساعد القارئ العزيز ببعض هذه النماذج في شهر رمضان المبارك إن شاء الله تعالى.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.