على الرغم من اضطرار رئيس الوزراء الصهيوني «بنيامين نتنياهو» إلى تأجيل سن الإصلاحات القضائية التي شرعت حكومته في تمريرها، فإن كل المؤشرات تدل على أن تشظي المجتمع الصهيوني واستقطابه في أعقاب تفجر الجدل حول هذه الإصلاحات سيتعاظم.
فقد تراجع «نتنياهو» بشكل مؤقت لكي يتمكن من تجاوز العاصفة الهوجاء التي أثارتها الإصلاحات القضائية التي فجرت الاحتجاجات الجماهيرية والنقابية والنخبوية التي شلت مرافق الحياة في «إسرائيل»، لكنه وشركاءه في الحكومة يبدون تصميماً على إمضاء هذه الإصلاحات في الوقت الذي يرون أنه مناسباً لتمريرها.
لمس رئيس الحكومة الصهيونية «بنيامين نتنياهو» التأثير الاقتصادي الكارثي للاحتجاجات على الإصلاحات القضائية، حيث فرت الاستثمارات الخارجية وسارعت شركات التقنيات المتقدمة إلى مغادرة السوق «الإسرائيلية»، وتضاعفت وتيرة سحب الودائع من البنوك عشر مرات منذ بدء الحديث عن الإصلاحات القضائية، وتهاوت قيمة الشيكل مقارنة بالدولار، كما خشي «نتنياهو» أيضاً من تداعيات حركة رفض الخدمة العسكرية التي طالت بشكل خاص قوات الاحتياط، التي تضطلع بـ70% من الجهد العسكري للكيان.
ومع ذلك، فإن «نتنياهو» يبدي تصميماً على المضي قدماً بالإصلاحات رغم تظاهره باستعداده لتأجيلها، ومما يدلل على أن إعلان «نتنياهو» عن تأجيل الإصلاحات القضائية والدعوة لحوار مع المعارضة بشأنها جاء فقط بهدف كسب الوقت والمراوغة، حقيقة أنه سارع إلى وضع عراقيل تجعل من نجاح المفاوضات مع المعارضة حول صيغة توافقية بشأن هذه الإصلاحات شبه مستحيلة، فقد رفض «نتنياهو» أن يكون من حق رئيس الكيان «إسحاق هيرتزوغ» التدخل وطرح صيغ توافقية بهدف حسم الخلافات بشأن الإصلاحات.
في الوقت ذاته، فإن شركاء «نتنياهو» منحوا المعارضة شهراً واحداً للتوافق على صيغة نهائية للإصلاحات القضائية قبل أن يتم استئناف تطبيقها بدون التوافق معها، كما عبر عن ذلك وزير الأمن القومي رئيس حركة المنعة اليهودية «إيتمار بن غفير».
ويبدي «نتنياهو» وشركاؤه في الحكومة إصراراً على التشبث بالإصلاحات القضائية رغم الضرر الاقتصادي والأمني الهائل المترتب عليها؛ لأنها تخدم مصالحهم، فبالنسبة لـ«نتنياهو»، يكتسب تمرير الإصلاحات القضائية أهمية كبيرة على صعيد مصلحته الشخصية، حيث إن الإصلاحات توفر له الملاذ الوحيد للإفلات من المحاكمة في قضايا الفساد، التي تشمل خيانة الأمانة، وتلقي الرشوة، والاحتيال، وتمنحه طوق النجاة الأوحد من المكوث في السجن لفترة طويلة.
وفي المقابل، فإن قادة الأحزاب الدينية بشقيها القومية والحريدية المشاركة في الائتلاف الحاكم ترى في الإصلاحات القضائية متطلباً حيوياً لوضع منطلقاتها الأيديولوجية موضع التنفيذ وتحقيق مصالحها ومصالح الجماهير التي تمثلها.
حسم الصراع
فالأحزاب التي تمثل التيار الديني القومي المتطرف، ممثلة بحركة «المنعة اليهودية» التي يقودها وزير الأمن القومي «بن غفير»، وحركة «الصهيونية الدينية» التي يقودها وزير المالية والاستيطان «بتسلال سموتريتش»، تريان في الإصلاحات القضائية التي تضعف الجهاز القضائي متطلباً رئيساً لتمكينها من تطبيق التعهدات التي قطعتها أثناء الحملة الانتخابية والهادفة إلى حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني.
فعلى الرغم من أن الجهاز القضائي «الإسرائيلي» كان دوماً شريكاً رئيساً في الجرائم التي ارتكبت ضد الشعب الفلسطيني؛ فإن ما تطرحه «المنعة اليهودية» و«الصهيونية الدينية» من رؤى بشأن التعاطي مع الصراع مع الشعب الفلسطيني لا يمكن للجهاز القضائي «الإسرائيلي» بتركيبته الحالية أن يشرعها، فالبرنامج العام لحركة «المنعة اليهودية» يتحدث بصراحة عن طرد الفلسطينيين، وضمنهم فلسطينيو الداخل الذين يحملون الجنسية «الإسرائيلية»، إلى الدول العربية.
في حين أن حركة «الصهيونية الدينية» تجاهر بحماسها لتنفيذ مجازر ضد الشعب الفلسطيني؛ حيث إن زعيمها «سموتريتش» عبر عن هذا التوجه بشكل فج عندما دعا إلى محو بلدة حوارة الفلسطينية من الوجود، فضلاً عن عرضه خارطة لـ«إسرائيل الكبرى» تضم فلسطين والأردن وأجزاء من سورية ولبنان!
أما الأحزاب الدينية الحريدية، ممثلة في حركتي «شاس» و«يهدوت هتوراة» فتتشبث بالإصلاحات القضائية؛ لأنها تساعد على تحييد العوائق التي تحول دون تطبيق منطلقاتها الدينية والفكرية بشأن طابع العلاقة بين الدين والدولة، وتعزيز مكاسب جماهيرها المادية.
فالأحزاب الحريدية تطالب بتديين الفضاء العام، وضمن ذلك تكريس الفصل بين الجنسين في المؤسسات العامة وتقليص دور المرأة، وإعلاء مكانة التعليم الديني، والتطرف في إخضاع قوانين الأحوال الشخصية للتراث الديني، وغيرها، ويعي قادة الأحزاب الحريدية أن تحقيق هذه المطالب يتطلب تقليص قدرة المحكمة العليا على التدخل في القوانين التي يسنها «الكنيست» والقرارات التي تتخذها الحكومة بشأن طابع العلاقة بين الدين والدولة.
من هنا، فإن ممثلي الائتلاف الحاكم يصرون على أن تفي الإصلاحات القضائية بثلاثة أهداف رئيسة: تجريد المحكمة العليا من صلاحية رد القوانين التي يصدرها «الكنيست» وتعطيل القرارات التي تتخذها الحكومة، وإلغاء استقلالية المستشار القضائي للحكومة، وتعزيز قبضة الحكومة على اللجنة المكلفة باختيار القضاة.
من هنا، فإن «نتنياهو» وقادة ائتلافه الحاكم وزعماء أحزاب المعارضة وقادة حركة الاحتجاج على الإصلاحات القضائية يعون تماماً أن المعركة على الإصلاحات القضائية أبعد ما تكون عن الحسم.
وبغض النظر عن مآلات الحوار بين الحكومة والمعارضة بشأن الإصلاحات القضائية، فإنه يمكن القول: إن الاستقطاب الداخلي والتشظي المجتمعي الذي تعانيه «إسرائيل» في أعقاب تفجر الاحتجاجات على هذه الإصلاحات سيبقى إلى أمد بعيد، وقد يستحيل إلى حرب أهلية حقيقية.
فقد توقع رئيس الوزراء الأسبق «إيهود باراك»، وكل من «موشي يعلون»، و«بني غانتس» اللذين تبوأا منصب وزير الأمن ورئيس الأركان في السابق، قد حذروا من أخطار اندلاع حرب أهلية، أما «تامير باردو»، الرئيس السابق لجهاز «الموساد»، و«نداف أرغمان»، الرئيس السابق لجهاز المخابرات الداخلية (الشاباك)، فقد حذرا من انهيار «إسرائيل» ذاتها في أعقاب هذه الإصلاحات.
صراع الهويات
فقد سمحت الاحتجاجات الجماهيرية ضد الإصلاحات القضائية بتفجر صراع الهويات على أسس دينية وأيديولوجية، وعرقية وطبقية بين الفئات التي تشكل المجتمع «الإسرائيلي»، فثارت مواجهات على أساس ثنائية: اليمين واليسار، وثنائية: متدينون وعلمانيون، وثنائية: شرقيون وغربيون، وثنائية: طبقة وسطى وطبقات ضعيفة.
فقد دلل صراع الهويات المحتدم حالياً بشكل لا يقبل التأويل على تهاوي إستراتيجية «بوتقة الصهر» التي أرساها مؤسس «إسرائيل» رئيس وزرائها الأول «ديفيد بن غوريون»، التي قامت على دمج الثقافات التي جلبها اليهود الذين هاجروا إلى فلسطين لإنتاج الهوية اليهودية والثقافة «الإسرائيلية» الجامعة.
من هنا، حتى لو حدث غير المتوقع، وتم التوافق على الإصلاحات القضائية، فإنه لن يكون بالإمكان خفض لهيب صراع الهويات الذي سيتواصل لأمد بعيد، حيث قد يفضي إلى تحقق نبوءات «لعنة العقد الثامن»، التي حذر منها «باراك» التي توقع فيها أن يشهد العقد الحالي بدء انهيار الكيان الصهيوني.