منذ فترة لم أنظر إلى وجهي في المرآة، تعودت أن أقف قبالتها، انطبعت في ذاكرتي ملامحي، كنت أعرف التعرجات والمنحنيات التي تظهر، أتحسس شعر رأسي، يبدو أنه الآن صار أكثر هشاشة، كثرت به الشعرات البيض، أبحث عن المرآة فلا أجدها، علها انزوت في ركن الحجرة التي تراكمت فيها أشيائي القديمة:
ثياب مكدسة تهرأت خيوطها، كتب صفراء، أفلام نفد حبرها، أحذية بالية، قطع نقود معدنية، طوابع بريد، بعضكم لن يصدق أنني أحتفظ بالكراسة الأولى التي نزل فيها قلم عن السطر، لم أحاول التخلص من تلك البقايا.
في أوقات الفراغ الذي سكن ذاتي أقلب فيها، أشد ما تغمرني السعادة حين أقلب صوري، أتعجب من منظر وجهي، كنت أكثر نحافة، تميل عيني اليمنى، أرنبة أنفي صغيرة، لم تكن لحيتي قد ظهرت بعد، أتذكر بعض الأيام التي غمرتني فيها السعادة، في يوم منها أحضر لي أبي حين عاد من السعودية «بدلة»، لكنه نسي «الكرافت» ربما لم يشأ أن أبدو مثل أولاد الذوات، أغرب ما في الأمر أن زملائي في المدرسة سخروا مني، بدوت مختلفاً عنهم، لكنني لم أخضع لتلك النمائم الصغيرة، غير أنني انتعلت حذاء من البلاستيك، تمنيت يومها أن أبدو مثل هؤلاء الزائرين يأتون إلى المدرسة، عدت أبحث عن أبي، أرجوه أن يشتري لي حذاء من الجلد، لم أكن أعلم أنه خصني دون بقية إخوتي بهذه الحلة الجديدة، مسح على رأسي ثم قال لي: «في المرة القادمة سترتدي كل ما تحب».
أخبرني أنه يعمل في الصخر، انحنيت على رأسه أقبّلها، كبر في عيني حتى خلته أقرب إلى السماء، اعتذرت له، لم أسأله أشياء جديدة!
تبين لي أن سر احتفاظي بكل تلك الأشياء سببه أن أبي أنفق فيها بعض عمره، حتى المرآة قد علاها غبش، ساعة يدي توقفت عقاربها، ملامح وجهي المتغضنة تحتفظ بأثر يديه، أحرص حين أرتدي ثيابي ألا أضع رابطة عنق، حتى أحتفظ بتلك اللحظة التي غمرتني فيها السعادة!
أمرر باطن أصابعي مجدداً على وجهي، ثمة ندوب ربما بضعة بثرات في جبهتي، حين كان أبي يغضب أرى ذلك في عرق رقبته النافر، كنت أترضيه بما يحب، أطالبه بأن يخلع صداره وطاقيته الصوفية، أزهو بين إخوتي بثيابه، الآن وحدي الذي ورث أشياءه كلها، عصاه وعباءته، بل سحنته، فالابن سر أبيه!
تكدست كل تلك السنوات في خزانتي، لم أدع عطر أبي ولا مرآته، حذاؤه وكل أغراضه ما تزال أمامي، يتهمني أولادي بأنني أختزن كل هذه ضناً بها، أحاول إخفاءها بعيداً، ربما تخلصوا منها، باعة القديم يتربصون بي!