الهجرة.. إلى أين؟ الحلقة الثانية *
الشيخ يوسف القرضاوي في محاضرته الثانية يقول:
– الصليبيون واليهود والشيوعيون وعملاؤهم يعملون مجتمعين حتى لا تقم للإسلام دولة.
– نحن نواجه جاهلية في العقيدة والأخلاق والسياسة.
– لا بد من التحرر من آثار الاستعمار التشريعية والفكرية والاجتماعية.
قامت المعوقات في كل مكان واتفقت القوى المختلفة؛ المثلث الرهيب (اليهودية العالمية، الصليبية العالمية، الشيوعية الدولية)، وما لهم من عملاء وتلاميذ هنا وهناك، اتفق الجميع وإن اختلفوا في بعض الأشياء على أن يقفوا ضدها، أن يحولوا بكل ما يستطيعون دون أن تقوم للإسلام دولة في أي رقعة من رقع الأرض، وصدق الله العظيم: (وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) (الأنفال: 73)، من هنا نقول: إن الهجرة المطلوبة منا الآن ليست هجرة مكانية، أو ليست هجرة بدنية، ليست هجرة بالجسم من أرض إلى أرض أو من بلد إلى بلد، فتكاد تكون كل البلاد متقاربة أو متكافئة في موقعها من الإسلام، يختلف بعضها عن بعض قليلاً أو كثيراً، إذاً؛ فما الهجرة المطلوبة؟ الهجرة المطلوبة هي هجرة فكرية وشعورية وسلوكية.
هذا المجتمع الذي شابته الجاهلية في مواطن شتى؛ فكدرت صفاءه، وأبعدته عن الإسلام الحقيقي مجتمع القرآن، ذكر الجاهلية تتعلق بالعقيدة حين قال الله تعالى عن قوم: (يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (آل عمران: 154)، وجاهلية تتعلق بالأخلاق خاصة.
أخلاق الأسرة بالذات المرأة، وقال تعالى: (وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى) (الأحزاب: 33)، وجاهلية تتعلق أيضاً بالأخلاق الاجتماعية؛ (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) (الفتح: 26)، وجاهلية تتعلق بالحكم والسياسة، وهي التي تحدثت عنها سورة “المائدة”: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)، ومما يؤسف له أن كل مجال من هذه المجالات الأربعة قد أصابنا رذاذ منه؛ العقيدة قد مسها شيء من الجاهلية بدءاً، ظن الجاهلية، وظنون الجاهلية تخالط الناس، ألوان من الشرك القديم والحديث الجلي والخفي الأكبر والأصغر، هناك شرك للعامة يعظمون فيه الأموات، وشرك الخاصة يعظمون فيه الأحياء، وثنيات جديدة، هناك وثنيات سياسية ووثنيات فكرية ووثنيات اجتماعية، ألوان من الوثنية.. إن الذي يعبد الفكر الغربي ويتخذه قضية مسلَّمة لا يناقش فيها هذا تعبد وثني.. الذي يعبد فرويد أو ماركس أو دور كايم أو غير هؤلاء ويتخذ أفكارهم أموراً لا مجال للمناقشة فيها هذا وثني.. سمعنا وأطعنا.. هؤلاء قد اتخذوهم أرباباً من دون الله، إنها وثنية سياسية أو تشريعية، هناك ألوان من الوثنيات دخلت هذا المجتمع، ثم هناك أيضاً تبرج وأي تبرج! لقد كان تبرج الجاهلية الأولى نوعاً من الحشمة إذا قسناه إلى تبرج عصرنا.. إلى هذه الجاهلية الحديثة، الجاهلية التي كادت تخرج المرأة من ثيابها وأي ثياب! إن الأصل في الثياب تخاط لتستر العورات لستر مفاتن الجسم، أما الثياب الحديثة فالأصل فيها أنها تجسم العورات وتبرز المفاتن وتثير الإغراء هكذا تفصل! مصممو الأزياء الذين يقبعون هناك في الغرب في أوروبا وأمريكا في تلك العواصم من اليهود وفروخهم وتلاميذهم وكل مهمتهم أن يبرزوا فتنة المرأة وذلك ليفسدوا الشباب، والشباب هم ذخيرة الأمة.
لن نحدثكم عن هذا التبرج ولا عن الكاسيات العاريات المائلات المميلات اللاتي وصفهن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رواه مسلم: “رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وأن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا”.
اللحوم التي تعرض في الأسواق وفي المصايف وعلى شواطئ البحار وفي عواصم المدن.. المدن العربية والإسلامية، أمر لسنا بحاجة إلى أن نتحدث عنه، جاهلية أفسدت النساء وأفسدت معها الشباب أيضاً آتت أكلها بالفعل.. استرجلت المرأة وتخنث الشباب، فسدت فطرة الرجل، وفسدت فطرة المرأة، كنت مع أخ صديق في إحدى العواصم العربية، وكان أمامنا اثنان أو اثنتان لا ندري! قال لي: هذان شخصان أمامنا، أتعرف أهما فتاتان أم فتيان أم واحد منهما فتى والآخر فتاة؟! قلت له: يا أخي، والله لقد حيرتني! لا لم أجد فرقاً، كلاهما يلبس بلوزة مشجرة وبنطلون شارلستون وشعراً طويلاً؛ يعني لا فرق إطلاقاً، ثم جئنا إلى وجهيهما فوجدنا أحدهما قد خط شاربه، فقلنا: لا بد أن يكون هذا هو الفتى، لقد اختلط الحابل بالنابل، لا تكاد تعرف ذكورة من أنوثة، ولا رجلاً من امرأة! هذه هي الجاهلية التي نعيش فيها، ثم هناك حمية الجاهلية العصبية التي دخلت حياة المسلمين بعد أن كان المسلم جنسيته إسلامه وعقيدته هي مصدر فخاره.
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم
بعد هذا، أصبحنا نجد هذا يقول أنا عربي، وهذا يقول أعجمي، وهذا ينادي بالقومية الطورانية، والآخر بالقومية العربية، والآخر بالقومية الفارسية، والآخر بالقوية الهندية.. وهكذا، ثم داخل كل قومية من هذه القوميات نزعات إقليمية ووطنية؛ كل واحد يعتز بإقليمه ووطنه؛ هذا مصري، وهذا سوري، وهذا كويتي، وهذا قطري، وهذا خليجي، وداخل الوطن تأتي نعرات أخرى؛ هذا من قبيلة كذا، وهذا من قبيلة كذا، هذه هي الحمية حمية الجاهلية، لقد أبطلها الإسلام، وقال: “دعوها فإنها منتنة”، إنها منتنة، ليس هناك إلا أخوّة الإسلام هي الرابطة وحدها؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (التوبة: 23).
لا تتخذوهم أولياء، وليّك هو المؤمن فقط، فالإسلام أبطل كل رابطة إلا رابطة الدين، إن نوحاً عليه السلام حينما قال: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ) (هود: 45)، قيل له: (يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود: 46)، أهلك هم المؤمنون، بينما يقول الله تعالى عن علاقة إبراهيم عليه السلام بنوح عليه السلام: (وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ {83} إِذْ جَاء رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الصافات)، قطع الله العلاقة بين نوح وابنه الذي هو من صلبه، ووصل العلاقة بإبراهيم، وبينهما قرون وقرون، العلاقة والرابطة هي علاقة العقيدة ورابطة الإيمان، إن مصعب بن عمير يقول لأخيه في يوم “بدر” وقد أسر أخوه أبو عزيز بن عمير أسره رجل من الأنصار، فمر مصعب الداعية الأول رضي الله عنه، فوجد أخاه في يد الأنصاري أبا اليسر، فقال له: أبا اليسر، اشدد يدك عليه؛ فإن أمه ذات مال وفير، فنظر إليه أخوه وشقيقه وابن أمه وأبيه وقال: أهذا وصاتك بأخيك؟! فقال: إنه أخي اليوم دونك، الأخوة هي أخوة الإيمان وأخوة الإسلام، ولهذا فإن ظهور العصبيات القومية والإقليمية والقلبية والعصبيات المختلفة في بلاد الإسلام وبين المسلمين هي لون جديد من حمية الجاهلية.
ثم هناك حكم الجاهلية؛ إن حكم الجاهلية قد أصابنا؛ (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة: 50)، لقد رضي كثير من قومنا أو رضي أقوامنا كلهم غالباً أن يحكموا الجاهلية في حياتهم، وأن يرفضوا حكم الله، وليس هناك أعدل من الله حكماً ولا أقوم من الله قيلاً، رفضوا التشريع الإسلامي وحكموا تشريعات الغرب، كان هناك عدو حينما كان هناك الاستعمار مسيطر على بلاد الإسلام، ولكن أما وقد حمل الاستعمار عصاه ورحل من بلادنا فلا بد أن نتحرر من آثاره ومن أوزاره، لا بد أن نتحرر من آثاره الفكرية وآثاره الاجتماعية وآثاره التشريعية، لا بد أن نتحرر من كل هذه الآثار ونرفض الجاهلية.
الجاهلية قد أصابتنا في مختلف هذه المجالات، لا أستطيع أن أقول: إن مجتمعنا مجتمع جاهلي مائة بالمائة، فهذا عدوان وإكراه، وقد فطرني الله على الاعتدال كما أظن وأرجو أن أكون كذلك، المجتمع خليط من الجاهلية والإسلام، فيه إسلام وفيه جاهلية، هناك مساجد وهناك حانات، هناك مدارس تعلم الدين ومدارس تعلم اللادينية، هناك كليات للشريعة وكليات للحقوق، هناك تناقض غريب يعيش فيه هذا المجتمع، ومن أجل هذا ينشأ المسلم في حيرة وتناقض أيضاً، بلبلة نفسية وفكرية بين عقيدته وواقعه، بين ضميره ومجتمعه، ما دام يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وما دامت هذه الأمة أمة مسلمة.
فلماذا لا تُحِكّم كتاب ربها؟ أنا أعتقد أن أرضية هذه الأمة أرضية إسلامية، حتى هذا العاصي الذي يبارز الله بالمعصية ويشرب الخمر أو يزني أو يرتكب هذه المعاصي أعتقد لو حككت ووصلت إلى معدنه الأصيل ستجده مسلماً يتمنى أن يتوب الله عليه، ولعله لو وجده داعية يلمس وتر قلبه لرجع إلى الله وقرع بابه، وقال أبوه آدم من قبل: (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الأعراف: 23)، المشكلة في التناقض الذي يعيش فيه هذا المجتمع، فنحتفل بالهجرة ونقيم أياماً وأحفالاً ومواسم نتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، ولكن أهذا وحده هو إحياء هذه الذكرى؟ أهذا هو حق هذه الذكريات علينا، أم نرفع الرايات وننصب الأعلام ونقيم الزينات والأضواء؟ ليس هذا يكفي، حسن جداً ولا شك أن نحتفي بهذه الذكريات، وأن نحاول أن ننتفع بها، وأن نستهدي ونتلمس منها العظة ونقتبس منها العبرة، جميل جداً أن نفعل هذا، ولكن أن نقف عند هذا فقط ليس هذا بالحسن ولا الجميل، ليس بالحسن ولا بالجميل أن يحتفل البنك فيضيء بالأضواء الزرقاء والحمراء أو البيضاء على المبنى وبداخله يجري في عروقه الربا، ليس جميلاً أن تحتفل السينما بالهجرة أو بالمولد أو الإسراء والمعراج وبداخلها يسري الفجور سريان السم في البدن، لا.. الاحتفال بالهجرة ليس هو هذا، ولكن أن نحاول تخليص المجتمع من آثار الجاهلية، ونقله إلى الإسلام الصحيح، أن نوفق بين عقيدتنا وواقعنا، وألا نكون كالذين قال الله فيهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً {60} وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً) (النساء).
هذا هو التناقض، أن يدَّعوا الإيمان بما أنزل الله على محمد وبما أنزل من قبله أنهم يؤمنون بالله وكتبه ورسله جميعاً، ومع هذا يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، ويحكّمون الجاهلية، ما دامت هذه الأمة تؤمن بربها وقرآنها ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلماذا لا تعود إلى كتاب الله، تأخذ ببعض وتدع البعض؟ هذا لا ينفع ولا يغني عنها عند الله شيئاً، إن الله قرع بني إسرائيل هذا المسلك الشائن المعيب حينما قال: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (البقرة: 85).
لا بد من أخذ الإسلام كله وصفة متكاملة.. الإسلام كل لا يتجزأ.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* العدد (333)، ص26-29 – 28 المحرم 1397هـ/ 18 يناير 1977م.