- قريب لنا من العائلة يستعد هذا العام لأداء فريضة الحج للمرة الخامسة مع أنه يوجد في مدينتنا فقراء ومعدومون، وقد حاولت إقناعه بأن هناك أولويات في ديننا دون جدوى، فهل من رسالة توجهونها إليه؟
– لا يشك عالم يعرف أولويات الإسلام ويعرف ما حقه التقديم وما حقه التأخير في الأولويات التي يجب مراعاتها، وهذا الذي أنادي به منذ سنوات، وهو ما أسميه فقه الأولويات؛ إذ يجب أن نعلم أن الإسلام في تكاليفه ليس على مستوى واحد، بل هناك مراتب للأعمال، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق”.
إذن، هناك أدنى وهناك أعلى وهناك في الوسط شيء، والله تعالى يقول: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ) (التوبة: 19).
فالأشياء ليست متساوية، ونريد أن نفقّه المسلمين هذا الفقه، فقد رأيت من قديم أناساً يظلمون العمال الذين يعملون عندهم، كما رأيت فلاحين في قريتي يعملون عند فلان المالك أو مستأجري الأرض، والأرض تأكلها الدودة، بينما هو لا يسامحهم في فلس واحد، ثم يأتي ليحج للمرة الثالثة أو العاشرة، ولو أعطى هؤلاء حقوقهم لكان أفضل من أن يكرر الحج.
لقد قال العلماء: إن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدَّى الفريضة، ومن شغله الفرض عن النفل فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض فهو مغرور، فنحن في حاجة إلى فقه هذا.
فقه الصحابة والتابعين
رُوي عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يُكثر الناس في آخر الزمان من الحج بلا سبب، يهون عليهم السفر ويبسط لهم في الرزق، يهوي بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار، يضرب في الأرض للحج وجاره إلى جنبه مأسور لا يواسيه.
فهو يقول لك: إنه يذهب ليحج ويضرب الرمال والقفار بينما جاره يأسره الجوع أو الفقر أو الحاجة وهو لا يواسيه!
وجاء رجل إلى بشر بن الحارث، وهو من زهاد الأمة وربانييها، فقال له: يا أبا نصر، إني أردت الحج وجئتك أستوصيك، فهل توصيني بشيء؟ قال له: كم أعددت من النفقة للحج؟ قال: ألفي درهم -وألف درهم في ذلك الوقت مبلغ طائل فالدرهم قوة شرائية ضخمة– فقال له: هل تريد الحج تزهداً أم اشتياقاً إلى البيت أم ابتغاء مرضاة الله؟ قال: والله ابتغاء مرضاة الله، قال، هل أدلك على ما تحقق به مرضاة الله وأنت في بلدك ومنزلك؟ إذا دللتك على شيء من هذا تفعل؟ قال: أفعل، قال: تذهب تعطي هذا المبلغ عشرة أنفس؛ فقير ترمم فقره، ويتيم تقضي حاجته، ومدين تقضي عنه دينه، ومعيل تخفف عنه أعباء عياله. وعدَّ له عشرة من الناس، وقال: ولو أعطيتها واحداً تسد بها حاجته فهو أفضل؛ أي تكفيه وتحل مشكلته بالألفي درهم هذه، فقال: يا أبا نصر، السفر في قلبي أقوى، فقال له: إن المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات أبت النفس إلا أن تقضيه في شهوتها!
وأرى شخصياً أنه من عدم الفقه تكرار الحج دون سبب وترك الأولويات، وأولى أن يفهم المسلم أنه حين يطعم جائعاً أو يداوي مريضاً أو يؤوي مشرداً أو يكفل يتيماً أو يقضي حاجة أرملة أو يبني مدرسة لمجموعة إسلامية في آسيا أو أفريقيا أو مسجداً أو يسهم في مشروع ذي بال.. هذا كله أفضل عند الله.
والمفروض أن يشعر المسلم بالنشوة واللذة الروحية لكل هذه الأعمال الجليلة القدر أكثر مما يكرر الحج ويذهب ويطوف بالبيت ويقول: لبيك اللهم لبيك، فهذا قطعاً دليل على قصور الفقه، وفقه الأولويات عنده.
فلو أن المسلمين فهموا هذا لاستطعنا أن نستفيد من المليارات كل عام، وهذه المليارات لو وجدت جهة تنظمها وتقوم على صندوق اسمه صندوق بدائل الحج، لمن يريد ثواباً أكثر من حج التطوع، فيأتي الإخوة الذين قرروا ألا يكرروا الحج، ويدفعون نفقة الحج لصندوق بدائل الحج لمصالح المسلمين في العالم، فإن هذه المبالغ كلها لو دفعت لسدت مسداً وثغرة في حياة المسلمين وحاجاتهم، فليت هذا الوعي يحدث في الأمة.
( العدد (1585)، ص57 – 25 ذو القعدة 1424ه – 17/1/2004م