الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه، وبعد..
فقد اختص الله هذه الأمة بخير كتاب أنزل وخير نبي أرسل، وجعلها آخر الأمم، شاهدة على من قبلها من الناس، بوسطيتها التي ميزها الله تعالى.
كما قال سبحانه وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، وظلت الأمة متحدة على الجادة على العقيدة الإسلامية بنقائها وسلامتها وبساطتها خلافة أبي بكر، وعمر، وستاً من خلافة عثمان، ثم كانت الفتن الكبرى: مقتل عثمان، وقتال المسلمين بعضهم بعضاً في حربين كبيرتين، كانتا سبباً في قتل الألوف، بل عشرات الألوف من المسلمين؛ في معركة “الجمل”، ومعركة “صفين”، أضف إلى هاتين الحربين حرباً ثالثة هي معركة “النهروان”، وانتهت المعركة بهزيمة الخوارج، الذين خططوا لقتل الخليف الراشد علي بن أبي طالب، وقتلوه رضي الله عنه.
خرجت الأمة من هذه الفتن، وقد ظهرت فيها أصول فرق الخوارج، والقدرية، والشيعة الأوائل، ثم ظهرت بعد ذلك فرقة المعتزلة، وتعصبت كل فرقة لنفسها ومعتقدها، وكبرائها.
وبعد مقتل الإمام عليّ رضي الله عنه، رأى الإمام الحسن أن يحقن دماء الأمة بالتنازل والصلح، زهداً وإيثاراً، رضي الله عنه، ليحقق ما بشر به الرسول الكريم أمته، حين قال: “إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين”، وسمى المسلمون هذا العام بـ”عام الجماعة”، غير أن هذا الاجتماع لم يدُم طويلاً، فقد جرى في النهر مياه كثيرة، كوقعة الحرة، وخروج الحسين، وعبدالله بن الزبير رضي الله عنهم.
في هذا الجو المضطرب تميزت أغلبية الأمة، والجمهور الأعظم منها، ممن تمسك بالعقيدة الصحيحة، من غير اتباع لهوى، ولا استحداث لبدعة بهذا اللقب “أهل السُّنة والجماعة”، انتسبوا إلى “السُّنة” وإلى “الجماعة”.
والسُّنة هي سُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهديه وطريقته، ومنهجه..
والجماعة هي جماعة المسلمين، وليست كما يظن بعض السطحيين من المعاصرين أنها جماعة من الجماعات المعاصرة، وهي إيذان من أول أمر أن أهل السُّنة والجماعة يؤمنون بوحدة الأمة، ويرفضون الفرقة، امتثالاً لقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) (آل عمران: 103)، وقوله عز وجل: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء: 92)، (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52).
ظهور المصطلح ودلالته
ظهر هذا التعبير أول ما ظهر في قول ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير قوله تعالى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) (آل عمران: 106)، قال: تبيض وجوه أهل السُّنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والضلالة.
وتبعه على هذا المعنى الإمام محمد بن سيرين، قال: “كانوا لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة، قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السُّنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدعة فيرد حديثهم”.
فكلمة “السُّنة” هنا ما تقابل البدعة في الاعتقاد والأعمال والتعبد.
وبهذا المعنى استخدم الفضيل بن عياض مصطلح “أهل السُّنة” في مقابل أهل البدع، قائلاً: “إن أهل الإرجاء يقولون: إنه الإيمان قول بلا عمل، ويقول الجهمية: الإيمان المعرفة بلا قول ولا عمل، ويقول أهل السُّنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل”.
وهذا ما حدا بالإمام أبي جعفر الطحاوي الحنفي أن يذكر في مقدمة عقيدته المشهورة: “هذا ذكر بيان اعتقاد أهل السُّنة والجماعة”.
ويعجبني هنا ما نقله ابن عبد البر عن الإمام مالك إمام دار الهجرة: أن رجلاً سأل مالكاً فقال: من أهل السُّنة؟ قال: أهل السُّنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به؛ لا جهمي ولا قدري ولا رافضي.
فــ “أهل السُّنة والجماعة” هو الاسم العلم لأمة الإسلام المطلوب توحده واجتماعها وتألفها على الإسلام العظيم، وعلى كتاب الله تعالى، وعلى سُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما اجتمع عليه الصحابة، وتابعوهم بإحسان.
ويمكن القول: إن أهل السُّنة امتداد طبيعي للصحابة والتابعين وتابعيهم من أهل القرون الثلاثة الأولى، وأنهم هم الأصل الذي حادت عنه كل الفرق.
المكونات الثلاثة لأهل السُّنة والجماعة
وكما انقسم أهل السُّنة في الفقه إلى مدارس، أشهرها المذاهب الفقهية الأربعة، فقد انقسموا في الاعتقاد إلى أصحاب الحديث وهم جل الحنابلة، والمتكلمين من الأشعرية والماتريدية ومعهم جل الفقهاء من الحنفية والشافعية والمالكية، وظل الأمر ملتئماً بين علماء كل طوائف أهل السُّنة، لا يخرج بعضهم بعضاً من دائرة أهل السُّنة الواسعة.
وليست مدرسة من هذه المدارس الثلاث معصومة من كل خطأ، فلا عصمة في هذه الأمة إلا لنبيها محمد صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء جميعاً اجتهدوا، وقد بلغوا رتبة الاجتهاد، وبلغوا من المنزلة في الدين والخشية والورع والعبادة ما يؤهلهم لهذا الاجتهاد، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر، وكله يُرجى له الخير.
وهذا ما قاله السفاريني الحنبلي صاحب العقيدة السفارينية في تعريفه لأهل السُّنة: أهل السُّنة والجماعة ثلاث فرق: الأثرية وإمامهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه، والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله، والماتريدية وإمامهم أبو منصور الماتريدي.
وقاله عبد القاهر البغدادي في “الفرق بين الفرق”: “أهل السُّنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، دون من يشتري لهو الحديث، وفقهاء هذين الفريقين وقراؤهم ومحدثوهم، ومتكلمو أهل الحديث منهم، كلهم متفقون على مقالة واحدة في توحيد الصانع وصفاته وعدله وحكمته، وفي أسمائه وصفاته، وفي أبواب النبوة والإمامة.. وليس بينهم فيما اختلفوا فيه منها تضليل ولا تفسيق.. فمن قال بهذه الجهة التي ذكرناها، ولم يخلط إيمانه بها بشيء من بدع الخوارج والروافض والقدرية، وسائر أهل الأهواء فهو من جملة الفرقة الناجية”.
الخلاف المقبول في فروع العقيدة بين مكونات أهل السُّنة
الحق أن الخلاف بين هذه الطوائف الثلاث في بعض أوصاف الله تعالى لا يخرج عن كونه من الاجتهاد المقبول في فروع العقيدة، بل عده بعض العلماء من قبيل الخلاف اللفظي، كما نقل العلاَّمة السلفي محمد جمال الدين القاسمي، حين قال: “وكأن الخلاف بين المذهبين لفظي، إذ مبنى مذهب الخلف على أن الظاهر غير مراد، ويعنون بالظاهر ما للخلق مما يستحيل على الخالق، فوجب تأويله، وأما السلف فينكرون أن معنى الظاهر منها ما للخلق، بل هو ما يتبادر إلى فهم المؤمن الذي يعلم أن ذاته تعالى، كما أنها لا تشبه الذوات، فكذلك صفاته لا تشبه الصفات، لأنها لا تُكيف ولا تعلم بوجه ما، فهي حقيقة النسبة إليه سبحانه، على ما يليق به؛ كالعلم والقدرة، لا تمثيل ولا تعطيل”.
وأنا أرى أن هذا الخلاف يظل من الخلاف المستساغ، الذي لا يقتضي تكفيراً، أو تفسيقاً، أو تبديعاً، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: “فمن كان من المؤمنين مجتهداً في طلب الحق وأخطأ فإن الله يغفر له خطأه، كائناً ما كان، سواء كان في المسائل النظرية أو العملية، هذا الذي عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجماهير أئمة الإسلام، وما قسموا المسائل إلى مسائل أصول يكفر بإنكارها ومسائل فروع لا يكفر بإنكارها.
أصول اعتقاد أهل السُّنة والجماعة
وإذا كان المسلمون وسطاً بين الأمم والملل، فإن أهل السُّنة وسط بين الفرق، يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويؤمنون بالقدر خيره وشره.
وهم يؤمنون بأن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، ويصفون الله بما وصف به نفسه في كتابه، وما وصفه به النبي صلى الله عليه وسلم فيما صح من سُنته، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.
وأهل السُّنة والجماعة يقولون: إن الإيمان قول وعمل، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، خلافاً للمرجئة، الذين يقولون: إن العمل ليس داخلاً في حقيقة الإيمان، وإن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وإن أصحاب المعاصي مؤمنون كاملو الإيمان.
وهم لا يكفرون أهل القبلة بارتكاب الكبائر، ولا يستحلون دماءهم، ولا يرون قتال أئمة العدل أو يرفعون السيف على أمة محمد، خلافاً للخوارج.
كما يؤمنون بأن أفعال العباد من كسبهم، ولكنها لا تكون إلا بمشيئة الله وإرادته وخلقه، وأنه سبحانه يعلم ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، خلافاً للقدرية الذين ينفون قدر الله وعلمه المسبق، والجبرية الذين ينفون اختيار الإنسان لأفعاله.
وأهل السُّنة والجماعة لا يقدمون العقل على النقل، ولا يوجبون على الله شيئاً، ويثبتون رؤية الله تعالى للمؤمنين في الآخرة، ولا يخلدون أصحاب الكبائر في النار، خلافاً للمعتزلة.
ويرون الإمامة من مسائل الفروع، وليست من أركان الإسلام، وأن الأئمة ليسوا معصومين، ولا يتلقون العلم من الله مباشرة، ويعظمون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأزواجه وآل بيته الذين نقلوا إلينا القرآن والسُّنة، خلافاً للشيعة.
مصطلح أهل السُّنة والجماعة لجمع الأمة وليس أداة للشقاق
وإنما المقصد الأول لهذا الاسم أو المصطلح “أهل السُّنة والجماعة” جمع جمهور الأمة تحت مظلة واحدة، لا أن يصبح هذا المسمى أداة للتنابز والشقاق والفرقة، بأن يحاول بعض أهل السُّنة أن يحتكروا هذا الاسم، ويُخرجوا الآخرين من مظلته الجامعة.
لذا، أعيب على بعض السلفيين غلوهم في تبديع وتفسيق المخالفين لهم من أهل السُّنة من الأشاعرة والغلو في اتهامهم بالضلال والمروق، وتقويلهم ما لم يقولوه في دين الله، ورميهم بالتجسيم والتشبيه، وهم يبرؤون منهما في كل ما كتبوه، حتى قالوا عن الإمام الرباني علاَّمة الأمة وشيخ الإسلام ابن تيمية ما لا يجوز ولا يقبل أن يقال بحال من الأحوال.
وفي الختام، أحب أن أؤكد أن أهل السُّنة والجماعة هم الأمة الإسلامية بمجموعها وأغلبيتها، ليسوا فرقة من الفرق، ولا طائفة من الطوائف، وإن جاز أن تضل أو تنحرف بعض المجموعات الصغيرة من الأمة، فقد عصم الله الأمة الإسلامية بمجموع أن تجتمع على ضلالة.