تفسير التاريخ والواقع من زاوية واحدة لم يعد مقبولاً لأنه يبصر جانباً من الحقيقة [1]
د. يوسف القرضاوي في أحدث دراسة عن “الثقافة العربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة (1)
مما لا ريب فيه أن كل المشفقين على مسار الأمة، وكل القوى والتيارات الفكرية والسياسية والاجتماعية، متفقون على أن أمتنا تعيش في أزمة حقيقة، تعددت أعراضها، وتنوعت آثارها، وإن اختلفوا في تعيين جوهر الأزمة ما هو؟
أهي أمة إيمان وأخلاق، كما يصورها دعاة الدين والفضيلة؟
أم هي أزمة فكر ومعرفة كما يصورها رجال الفكر والثقافة؟
أم هي أزمة حرية سياسية وديمقراطية، كما تصورها القوى المعارضة للنظم الحاكمة؟
أم هي أزمة علم وتكنولوجيا، كما يصورها كثير من دعاة الإصلاح، ومن رجال الفكر أنفسهم؟
لقد ردد كثيرون مع شوقي قوله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت
فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا!
ولكن د. زكي نجيب محمود علق على ذلك بقوله: لولا خشيتي سوءاً لتأويل لعارضت شاعرنا، لأقول له: وإنما الأمم في يومنا التقنيات ما اطردت وتغلغلت، فإن هم انعدمت علومهم وصناعتهم وتقنياتهم، تخلفوا إلى حيث لا أمل ولا رجاء، اللهم إلا إذا فهمنا الأخلاق بمعنى يجعل منها أن أعرف كيف يضغط على الأزرار ومتى.
وآخرون قالوا: إنما الأمم الأفكار والثقافة.
وغيرهم قالوا: إنما الأمم الحرية لوطنها، والحقوق لشعبها.
والأولى من ذلك أن ندع وحدانية التعليل والتفسير، إلى الشمول والتعدد.
إن “التفسير الواحدي” للتاريخ وللواقع لم يعد مقبولاً، لأنه يبصر الحقيقة من زاوية واحدة ويغفل زواياها الأخرى، وهو يبسط الأمور المعقدة والمتشابكة.
إن نهضة الأمم تؤثر فيها الثقافة، كما تؤثر فيها السياسة والاقتصاد، والتشريع والتربية وغيرها.
ومهما يكن الاختلاف في تحديد جوهر الأزمة، فأحسب أنه لا يخالف أحد في أهمية دور الثقافة فيها، وخصوصاً الجانب الفكري والأدبي والفني منها، وذلك لما لها من تأثير في الأخلاق والسلوك، ومن تأثير في السياسة والحكم، وتأثير في توجهات الشعوب إلى التقدم أو التخلف، إلى العلم والعمل، أو إلى الكلام والجدل.
فلو صحت ثقافة أمة واستقامت، وتكاملت وتوازنت وسلمت من عوامل التشويه والتحريف –كما في الأصل في ثقافتنا– لكان لها أثرها البالغ في صحة توجه الأمة واستقامتها وتكاملها وتوازنها، وإذا حدث العكس كانت النتيجة عكسية كذلك، لأن الثمرة من جنس الشجرة وصدق الله إذ يقول: (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً) (الأعراف: 58).
أما قضية “الأصالة والمعاصرة” في ثقافتنا فهي قضية قديمة جديدة.
فمنذ كنا طلاباً صغاراً ونحن نقرأ ونسمع ونتابع أنباء صراع فكري أدبي محتدم بين تيارين متعارضين يعبر عن أحدهما بـ “القيم”، ويعبر عن الآخر بـ “الجديد”.
ومما قرأناه من آثار هذه الحرب التي تسل فيها الألسنة لا الآسنة، وتشحذ فيها الأقلام لا السيوف، كتاب “تحت راية القرآن”، أو “المعركة بين القديم والجديد” لأديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي، الذي شن فيه الغارة على د. طه حسين وكتابه عن “الشعر الجاهلي”.
وفيه سخر الرافعي من هؤلاء “المجددين” الذين يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر!
ومما قرأناه شعراً من آثار هذه المعركة قول أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته الشهيرة عن “الأزهر”، مشيراً إلى الغلاة من دعاة التجديد، وأعداء القديم:
دع عنك قول عصابة مفتونة
يجدون كل قديم أمر منكرا!
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا
من مات من آبائهم أو عمرا!
من كل ساع في القديم وهدمه
وإذا تقدم للبناية قصرا!
وأتى الحضارة بالصناعة رثة
والعلم نزراً، والبيان مثرثرا!
كما قرأنا قول إقبال عن هؤلاء المجددين: إن جديدهم هو قديم أوروبا، كما ذكر هؤلاء بأن الكعبة لا تجدد، ولا تستجلب لها حجارة من الغرب!
واستمرت هذه المعركة بين التيارين المتضادين، ظاهرة حينها، وخفية في معظم الأحيان، يشتعل أوارها كلما ظهر كتاب بالغ الجرأة، أو نشرت مقالة كذلك، وتخبو جذوتها كلما مضت الحياة على وتيرتها المعتادة.
كان التيار الأول يمثل القديم الموروث في ثباته وشموخه، وكان التيار الآخر يمثل الجديد الوافد في بريقه وإغرائه.
وكان يمثل الدفاع عن التيار الأول: رجال الأزهر ودار العلوم والقضاء الشرعي، ومن دار في فلكهم، في مصر، وأمثالهم في البلاد العربية والإسلامية.
وكان يمثل التيار الآخر: خريجو المدارس والكليات الأجنبية في الداخل، وخريجو الجامعات الغربية والوافدون من الخارج، ومن تتلمذ عليهم.
ولا ريب أنه وجد غلاة في كلا الفريقين، ففي مقابل الذين يريدون تجديد الكعبة والشمس والقمر، وجد الجامدون على كل قديم، الذين يريدون أن يوقفوا حركة الفلك، وسير التاريخ، شعارهم “ليس في الإمكان أبدع مما كان”! وضاع الوسط بينهما.
وقد لخص الموقف علاَّمة الشام محمد كرد على في بحثه “القديم والحديث” بقوله: ها قد أصبحنا بعد هذا النزاع بين علوم الدين وعلوم الدنيا، والأمة شطران: شطر هو إلى البلاهة والغباوة، وشطر إلى الحمق والنفرة، وبعبارة أخرى: نسينا القديم، ولم نتعلم الجديد!
كانت عناوين النزاع بين التيارين تختلف من فترة لأخرى، ولكن المضمون في النهاية واحد، إلا أن التيار الأول يحمل في الغالب عنواناً منفراً مستنكراً، على حين يحمل التيار الآخر عنواناً جذاباً مغرياً.
تجد ذلك بيّناً واضحاً في العناوين التي استخدمت في التعبير عن هذا الصراع: القديم والجديد، التقليد والتجديد، المحافظة والتحديث، الجمود والتحرر، الرجعية والتقدمية.
حتى انتهى أخيراً إلى العنوان السائد اليوم، الذي يحمل ثنائية مقبولة إذا أعطيت الكلمة حقها من الفهم والتحليل، وهي ثنائية التكامل، لا ثنائية التضاد التقابل، وهو “الأصالة والعاصرة”، وفي وقت ما عبر عنه بـ”الأصالة والتجديد”، وقد قدمت فيه دراسات، ونظمت ندوات وحلقات.
ولا ريب أن قضية “الثقافة العربية” قضية بالغة الأهمية، ولا غرر أن عقدت حولها عدة ندوات ومؤتمرات في أكثر من بلد، تبحث في جانب أو أكثر من جوانبها المتعددة.
هذا ما ينبغي أن نبحثه هنا: ماهية ثقافتنا: أهي عربية أم إسلامية، أم هما معاً؟
وما مكونات هذه الثقافة وخصائصها؟
وما معنى هاتين الكلمتين اللتين اشتهرتا على الألسنة والأقلام، ورددهما الناس هنا وهناك دون تحديد بيِّن لمفهومهما: الأصالة والمعاصرة؟ وما المقصود بهما في نظرنا نحن المؤمنين برسالة الإسلام، وخلود دعوته، وبقاء أمته، واستمرار كتابه –بلسان العربي المبين– محفوظاً، كما وعد الله تعالى، (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (الكهف: 98)؟
هذا ما نرجو الله تباركت أسماؤه أن يوفقنا بفضله إلى إلقاء شعاع من الضوء، محاولة لإزاحة الضباب والغبش عنه، بقدر جهدنا الكليل وزادنا القليل، وسنقسم دراستنا هذه إلى أربعة فصول وخاتمة.
الفصل الأول: ثقافتنا العربية الإسلامية مكوناتها وخصائصها.. عربية أم إسلامية؟
في “المؤتمر التاريخي” الذي عقد في رحاب جامعة بيروت سنة 1974م تحت عنوان “الحضارة العربية.. بين الأصالة والتجديد”، وكان لي شرف المشاركة فيه، دار جدل طويل الذيول حول ماهية الحضارة المذكورة: أهي عربية أم إسلامية؟ وما الصلة بين العروبة والإسلام؟ أهي صلة تكامل أم صلة تناقض؟
وهذا الجدل يتجدد ويتكرر كلما تجدد الحديث عن ثقافتنا وحضارتنا، وعن هويتنا وانتمائها ونسبها: إلى أي أب تنتسب؟ وإلى أي قبيل تنتمي؛ إلى الإسلام أم إلى العروبة؟ إلى العرب أم إلى المسلمين؟
وزاد من حدة هذا الجدل وجود تيارين غلوا وتطرفا في النظرة للقضية؛ تيار الإسلاميين الذي يضيقون بالعروبة، وتيار العروبيين (القوميين) الذين يتنكرون للإسلام.
ولو أنصف كل منهما، ونظر في الأمر من جوانبه كلها، لوجدوا أن لا غنى للعروبة عن الإسلام، ولا معنى للإسلام بدون العروبة.
فالعربية هي لسان الإسلام، ووعاء ثقافته، ولغة كتابه وسُنته، والعرب هم عصبة الإسلام، وحملة رسالته الأولون، ليتلو عليهم آيات الله، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، ثم ينطلقوا في الأمم دعاة ومعلمين.
وأرض العرب هي أرض المقدسات الإسلامية، فيها الكعبة البيت الحرام الذي جعله الله قياماً للناس، ومثابة لهم وأمناً، وقبلة لأهل الإسلام، فحيثما كانوا ولوا وجوههم شطره، وإليه يحجون، وبه يطوفون، ومن حوله يسعون ويقفون وينسكون.
وفي أرض العرب مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومثوى رفاته الشريف، وفيها كذلك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله.
فكل المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها في أرض العرب.
لهذا كانت العروبة وثيقة الصلة بالإسلام، كما أن الإسلام موصول الرحم بها.
الإسلام هو الذي خلد العربية حينما نزل بها كتابه العظيم، وحدث بها رسوله الكريم، وهو الذي أخرجها من الجزيرة العربية ونشرها في الآفاق.
وهو الذي علم العرب من جهالة، وهداهم من ضلالة، وأخرجهم من ظلمات الشرك والجاهلية إلى نور التوحيد والإسلام، فقد كانوا كما وصفهم الله تعالى في كتابه: (وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (آل عمران: 164).
وأي ضلال أبين من ضلال قوم فسدت عقائدهم وتصوراتهم، وفسدت أخلاقهم وأعمالهم.
والإسلام هو الذي جعل للعرب رسالة يعيشون بها، ويموتون عليها، ويبذلون الأنفس والنفائس في سبيلها، وبهذا كانوا بالإسلام (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110).
والإسلام هو الذي وحَّد العرب من فرقة، وجمعهم من شتات القبلية، وأكرمهم بنعمة الأخوة بعد نقمة العداوة، وألَّف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخواناً، وجعل منهم “أمة” واحدة، تواجه أعتى أمم الأرض، بما لديها من دين تغالي به، وحق تعتز بنصرته، قال تعالى: (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا) (آل عمران: 103).
وما أبلغ ما قاله الإمام قتادة بن دعامة السدوسي في بيان ما كان عليه العرب قبل الإسلام، وما صاروا إليه بعد: “كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً، وأشقاه عيشاً، وأبينه ضلالة، وأعراه جلوداً، وأجوعه بطوناً، مكعومين([2])، على رأس حجر من الأسدين؛ فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقياً، ومن مات ردى إلى النار، يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلاً يومئذ من حاضر الأرض كانوا فيها أصغر حظاً، وأرق فيها شأناً، منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق وجعلكم به ملوكاً على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك”([3]).
ولا غرو أن قال عمر بن الخطاب بحق لأبي عبيدة ابن الجراح في رحلته إلى الشام، حيث عرضت له مخاضة في الطريق، فنزل عمر عن بعيره، ونزع خفيه، ثم أخذ بخطام راحلته، وخاض المخاضة، فقال له أبو عبيدة: لقد فعلت –يا أمير المؤمنين– فعلاً عظيماً عند أهل الأرض! فصكه في صدره: وقال: “لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة؟! أنتم كنتم أقل الناس، وأذل الناس، فأعزكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله”([4]).
وقال عمر الثاني –ابن عبدالعزيز– وقد قال له قائل، بعد موقف من مواقفه المحمودة: جزاك الله عن الإسلام خيراً يا أمير المؤمنين، فقال له: “بل جزى الله الإسلام عني خيراً”([5])! فرد الحق لأهله.
الحق أن الثقافة أو الحضارة التي نعتز بها، وننتمي إليها، ثقافة عربية إسلامية معاً، لا نقول هذا تملقاً للعروبة، ولا مجاملة للإسلام، إنما هي الحقيقة التي تدل عليها كل الأدلة.
هي ثقافة عربية، بحكم اللغة الأساسية التي كتبت بها، وعبرت عنها.
بحكم روح القرآن العربي السارية في جنباتها، المؤثرة في أعماقها.
بحكم تأثير البيان النبوي العربي والأسوة المحمدية في مسيرتها.
بحكم أن العنصر العربي كان هو العنصر الأول في تكوينها.
بحكم أن جزيرة العرب كانت مهبط وحياة ومنطلق دعوتها.
وهي مع ذلك وقبل ذلك ثقافة إسلامية بلا ريب.
بحكم الأهداف التي تتوخاها، والحوافز التي تدفعها.
بحكم الفلسفة والتصورات التي تحركها وتفجر طاقاتها.
بحكم الأجناس والعناصر الإسلامية المختلفة التي شاركت فيها عرباً وعجماً.
بحكم الرقعة الواسعة التي كانت مجالاً لها من الصين شرقاً إلى شواطئ الأطلسي غرباً.
فالأصوب، إذاً، أن نقول: ثقافة عربية إسلامية، وحضارة عربية إسلامية، وبذلك ننصف الحقيقة، وننصف العروبة، والإسلام جميعاً.
ويزداد هذا الأمر وضوحاً عندما نبين مكونات هذه الثقافة وخصائصها.
([1]) العدد (1084)، ص42-43 – بتاريخ: 7 شعبان 1414هـ – 18 يناير 1994م.
([2]) كعم فم البعير وغيره: شد فاه لئلا يعض، ومنه قيل: كعمه الخوف فهو مكموم، أمسك فاه ومنعه من النطق.
([3]) من تفسير الطبري، ج7، ص87-88، ط المعارف.
([4]) ذكره الحاكم في المستدرك وسكت عليه هو والذهبي (3/82).
([5]) ذكره ابن كثير في ترجمته من كتاب “البداية والنهاية”، ج9، ص 209، ط بيروت.