وأما الشبهة الأخرى، وهي أن الثقافة أو الحضارة مرتبطة ارتباطاً عضوياً لا يقبل التجزئة، بحيث يستحيل أخذ بعضها دون بعض، فهو قول مرفوض، ودعوى مردودة، يرفضها المنطق، ويردها التاريخ والواقع.
لقد دعا د. طه حسين إلى ذلك في الثلاثينيات من هذا القرن العشرين –في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”– كما دعا إليه آخرون قبله وبعده، ورد عليهم آخرون قديماً وحديثاً.
وقد عرضتُ لذلك في كتابي “الحلول المستوردة”، وبينتُ أن الانتقاء من الحضارات والثقافات ممكن وواقع، وقد حدث قديماً وحدث في عصرنا.
فقد أخذ المسلمون في عصورهم الذهبية عن الفرس والهنود واليونان جوانب مختلفة من حضارتهم وثقافاتهم، وانتفعوا بها بقدر أو بآخر، ولم يكن حتماً عليهم أن يأخذوا كل ما في هذه الحضارات أو الثقافات.
وأخذ الأوروبيون بعد ذلك من المسلمين المنهج العلمي الاستقرائي، كما شهد بذلك المنصفون من مؤرخي العلم الغربيين أنفسهم، وانتفعوا بهذا المنهج أيما انتفاع، ولم يكن لازماً لذلك أن يأخذوا من المسلمين عقائدهم وتصوراتهم وعباداتهم وآدابهم، وغير ذلك مما يكوّن ثقافتهم المتكاملة.
وأخذ اليابانيون اليوم من الغربيين علمهم الطبيعي والرياضي، وما أثمره من تطبيقات تكنولوجية، فأفادوا منه وتفوقوا فيه على أصحابه أنفسهم، ولم يأخذوا منهم ما يتعلق بالعقائد والشعائر والتقاليد، وما ضرهم ذلك شيئاً، بل حفظ عليهم ذاتيتهم، وشخصيتهم التاريخية المستقلة.
والمؤرخ المفكر الغربي الشهير “توينبي” ينقد بشدة غير الغربيين الذين يقبلون الحضارة الغربية بكل عناصرها، ويرى ذلك من سوء حظ البشرية، وذلك حين يتحدث عن البلاد التي تحررت من الاستعمار الغربي، فيقول، في محاضراته: “ولكن هذه البلاد التي استقلت سياسياً، ما زالت غير متحررة تماماً من الوجهة الثقافية، فهي لا تزال متأثرة بالأفكار والمثل العليا الغربية دون تمييز ودون أي انتقاد لها”.
وفي موضع آخر يقول: “على أن كل هذه البلاد التي نجحت في أن تحرر نفسها من سيطرة الغرب السياسية، قد استغلت حريتها على نحو غير متوقع على الإطلاق، فقد ناضلت هذه البلاد بعنف شديد ضد السيطرة السياسية للغرب، ويمكن القول: إن كفاحها هذا قد كلل بالنجاح في كل الحالات حتى الآن، ولقد كان من المتوقع بعد أن تمكنت من أن تتحرر سياسياً من الغرب، أن تستخدم هذه البلاد حريتها المكتسبة حديثاً، لكي ترجع إلى أسلوبها التقليدي في الحياة، وهو الأسلوب الذي كان سائداً في حياتها قبل أن يسيطر عليها الغرب، ولكن الذي حدث في جميع الحالات تقريباً –كما نعلم– هو أن البلاد التي تحررت حديثاً قد استخدمت حريتها للغرض العكسي تماماً، أي أنها قد استخدمتها لتقتبس –بمحض اختيارها– عناصر من المدنية الغربية؛ أعني من أسلوب الحياة الحديثة، وقد فعلت ذلك بحماسة، وبلغت حماستها هذه حداً لم يكن الحكام الغربيون السابقون يجرؤون على أن يفرضوا به المدنية الغربية عليهم، ذلك لأن نظام الحكم الأجنبي يتعين عليه دائماً أن يكون أكثر حذراً من نظام الحكم القومي، وهناك أمور لا يجرؤ النظام الأجنبي على فعلها مطلقاً، ومع ذلك يجرؤ عليها النظام القومي”.
“ولكنني أعتقد أنه سيكون من سوء حظ الجنس البشري كله –وضمنه الغرب ذاته– أن يتجه الجزء غير الغربي من العالم إلى قبول المدنية الغربية بكل عناصرها دون تمييز، ودون تفرقة بين ما هو نافع وما هو ضار فيها، وأقول: إن هذا يكون من سوء الحظ؛ لأن المدنية الغربية –شأنها شأن أي مدنية أخرى– فيها أوجه نافعة وأوجه ضارة.
ذلك لأن المستوى المادي للمعيشة ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة لغاية أخرى هي رفع المستوى الروحي.
وعلى ذلك، فمن وراء رأس المال المادي يوجد رأس المال الإنساني، وهو أهم رأسمال يملكه البشر.
دفاع العلمانيين عن استيراد المذاهب والأفكار
لقد دافعت بعض الأقلام العلمانية في ديارنا العربية الإسلامية عن اتجاه “الاستيراد”؛ استيراد المذاهب والأفكار من خارج أرضنا، واستغرب بعضهم النقد الذي يوجهه “دعاة الأصالة” إلى المذاهب المستوردة، والأفكار المستوردة، والحلول المستوردة، وحجة هؤلاء أن الحياة قائمة على التبادل؛ هذا يصدّر، وهذا يورّد، وهذا يبيع، وهذا يشتري، وهذا يعطي، وهذا يأخذ، كما يحدث هذا في عالم “الأشياء”، فلماذا لا يحدث مثله في عالم “الأفكار”؟! وفق تقسيم مالك بن نبي، رحمه الله تعالى.
وغفل هؤلاء عن عدة حقائق:
الأولى: إن دعاة الأصالة لا ينكرون استيراد الأفكار الجزئية، أو الحلول الجزئية لمشكلاتنا من الغرب أو الشرق، إذا كانت ملائمة لنا محققة لأهدافنا، نختارها نحن ولا تختار لنا أو تفرض علينا، بل قد يوجبون الاستيراد إذا رأوا فيه مصلحة متعينة لأمتنا، وبخاصة ما يتعلق بالوسائل والأساليب.
إنما ينكرون استيراد مذهب كامل نتخذه مرجعاً لنا، أو فكراً كلياً، أو حلاً كلياً، نؤسس عليه حياتنا كالفكر -أو الحل– الليبرالي الرأسمالي، أو الفكر –أو الحل– الاشتراكي الثوري الماركسي، كما نادى منادون بهذا أو ذلك أيام نفاق سوقها في بلادها.
الثانية: إن دعاة الأصالة ينكرون أن نظل نحن نستورد أبداً ولا نصدّر، ونشتري ولا نبيع، ونأخذ ولا نعطي، ونستهلك ولا ننتج، فهذا ليس من “التبادل” في شيء، إنما نحن –حينئذ– سوق لسلع الآخرين، وأفواه مفتوحة لالتهام منتجاتهم، وهذه هي “التبعية” الذليلة المرفوضة، التي لا يجوز أن ترضى بها أمة كريمة على نفسها، لا في عالم الأشياء ولا في عالم الأفكار.
وإذا سقطت أمة في مرحلة ما من تاريخها في هوة الاستيراد من جانب واحد، فعلينا أن نعتبر ذلك نقطة ضعف يجب أن نتجاوزها ونتحرر منها، ولا ندافع عنها أن نتباهى بها.
الثالثة: إن علم الاقتصاد الذي يستند إليه هؤلاء العلمانيون الذي يرى أن الحياة قائمة على التبادل، وأن الاستيراد كثيراً ما يكون ضرورياً للأمم والجماعات، هذا العلم نفسه يقيد هذا بقيود تجعله وسيلة نفع لا أداة ضرر، وآلة بناء لا معول هدم.
فلا يجوز أن نستورد من غيرنا ما يضرنا مادياً أو معنوياً؛ كالذي يسمونه “المشروبات الروحية”، وأدوات الاستهلاك الترفي، ولوازم اللهو الحرام.
ولا يجوز أن نستورد إذا كان الاستيراد يعوّد الشعب الاتكال على ما عند غيره، لا الاعتماد على نفسه، ليأكل مما يزرع، ويلبس مما يصنع، ويستهلك مما ينتج، ويدافع عن نفسه بأسلحة من صنع يديه.
وفوق ذلك كله لا يجوز أن نستورد سلعة من غيرنا إذا كان لدينا سلعة مثلها، ناهيك بسلعة أفضل منها.
وهذا ما جعل دعاة الأصالة العربية الإسلامية ينكرون استيراد أيديولوجيات ومذاهب نبتت في أرض غير أرضنا، لتخاطب قوماً غير قومنا، وتحمل لتفسير الوجود والمعرفة والقيم فلسفة غير فلسفتنا، وتتعامل مع الله والإنسان والكون والحياة بثقافة غير ثقافتنا.
النموذج الغربي للتنمية
وإذا كان الغرب ليس هو العصر، فمن حقنا أن نتوقف أمام بعض دعاة المعاصرة الذين يريدوننا –لكي نكون معاصرين حقاً– أن نأخذ “النموذج الغربي” في التنمية بكل ما أفرد من سلبيات في محيط الكون والحياة والإنسان، ويرون أنه لا سبيل لأن تنمو مجتمعاتنا وتنقض من كبوتها، وتخرج من إسار التخلف إلا إذا قلَّدت هذا النموذج حذوه القذة بالقذة.
هذا مع أن الغربيين أنفسهم اليوم يوجهون سهام تقدمهم إلى هذا النموذج الذي غلبت عليه نزعات المادية والنفعية والآنية والمحلية والعنصرية جميعاً.
لقد عدا النموذج الغربي على “التوازن الكوني”، وأمسى الناس يشكون اليوم من الخلل الذي أصاب طبقة “الأوزون” الذي ترتب عليه خلل كبير في حياة الناس قد يتفاقم فيؤدي إلى نتائج لا يعلم عواقبها إلا الله.
وعدا النموذج الغربي على “التوازن الفطري” الذي أودعه الله الحياة بعناصرها وأنواعها المختلفة، فكان من أثره ما جعل الناس يشكون من تلوث البيئة بمختلف مظاهره.
وأشد من خطر تلوث البيئة تلوث الإنسان نفسه؛ حين تفسد فطرته، وتختل موازينه، ويعوج تفكيره وسلوكه، فيرتكب من الحماقات، ويقترف من النكرات والشذوذات، ما يعاقب عليه في الدنيا، قبل الآخرة، تعاقبه فطرة الله في الأرض قبل أن تعاقبه محكمته في السماء.
ومن هنا كان الإيدز، وكانت الأمراض العصبية والنفسية، وكان القلق والاكتئاب، المنتهي بالانتحار، والتخلص من الحياة، أو العيش في الحياة باعتبارها ملهاة أو مأساة على نحو ما قال شاعرنا العربي قديماً:
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيباً
كاسفاً باله قليل الرجاء
لقد أدى هذا النموذج بنزعاته تلك إلى أن جعل الإنسان عبداً للآلة، التي هو صانعها، وأن أصبح في النهاية ترساً في هذه الماكينة الكبيرة الجبارة، إن لم يسر معها ويدر بدورانها طحنته عجلاتها، ولم يبال به أحد.
لقد قدمت له “التنمية الصناعية”، الخالية من القيم الإيمانية والأخلاقية، الوسائل، ولم تقدم له الغايات، قدمت له الرفاهية، ولم تقدم له السكينة، منحته المادة، وسلبته الروح، أعطته العلم وحرمته الإيمان.
لا غرو أن وجدنا من فلاسفتهم ومفكريهم وعلمائهم وأدبائهم من سلطوا أضواءهم الكاشفة على عورات هذا النموذج المسرف في المادية، الذي جعل التنمية غاية أو إلهاً معبوداً.
ومن أشهر نقادهم هنا اثنان من حملة جائزة “نوبل” في العلوم، وهما: ألكسيس كاريل، ورينيه دوبو.
هذا ما صنعه الغرب بنفسه حتى نما، ناهيك بما صنعه بغيره من الشعوب والأوطان.
لقد سرق ثرواتها سراً وعلانية، ليكون منها رصيداً ضخماً لثروته الكبرى، لقد أفقرها ليغتني هو، إنها اللصوصية بعينها.
لقد قتل الآخرين ليحيا، صنع من جماجمهم حجارة لبناء رفاهيته، وزخرف أبنيته بدمائهم.
واليوم، ونحن نسعى إلى التنمية بكل طاقاتنا، هل يلزمنا أن نقلد هذا النموذج ونتخذه إماماً؟
إن واجبنا أن نضعه على مشرحة التحليل لنعرف مكوناته، ونحلله إلى عناصره الأولية فنأخذ منه ما ثبت نفعه، ونتجنب منه ما ثبت ضرره وإثمه، أو ما كان إثمه أكبر من نفعه، وأن نحور فيه ونعدل حتى يلائمنا.
إن التنمية التي نتبناها هي التنمية بمفهومها الشامل الذي يعتبر الإنسان هدف التنمية ووسيلتها في آن واحد، الذي يهدف إلى تنمية الإنسان كله، جسمه وعقله، وعاطفته وروحه وضميره، الإنسان فرداً، والإنسان مجتمعاً، الإنسان طفلاً، والإنسان شاباً، والإنسان شيخاً، الإنسان رجلاً، والإنسان امرأة، الإنسان الأبيض والإنسان الأسود، والإنسان الملون.
2- العلم والتكنولوجيا
إن أهم مقتضيات المعاصرة، وبعبارة أخرى: أهم ما نأخذه من “العصر” هو العلم وتطبيقاته (التكنولوجيا)، العلم بمعناه الحديث القائم على الملاحظة والتجريب، العلم الطبيعي والرياضي، إلى آخر مدى وصل إليه، العلم الذي أوصل الإنسان إلى غزو الفضاء، وصنع الحاسوب (الكمبيوتر) والهندسة الوراثية، التي انتهت إلى مرحلة يعبرون عنها بـ “الثورة البيولوجية”.
إننا إذا قلنا: إن أصالتنا الإسلامية والعربية لا تمنعنا من أخذ هذا العلم والاقتباس منه والانتفاع به، نكون قد ظلمنا أصالتنا.
فالواقع أنها توجب علينا ذلك إيجاباً، من أكثر من جهة:
1- من جهة أنه من فروض الكفاية على الأمة –التي لا خلاف عليها– أن تتقن كل علم تحتاج إليه في دينها أو دنياها، وأن يكون لديها من التخصصين والخبراء فيه ما يقوم بكفايتها، ويغنيها عن غيرها.
وفرض الكفاية هو ما يجب على الأمة في مجموعها وجوباً تضامنياً بحيث إذا قام به عدد كاف سقط الإثم عن سائر الأمة، وإلا أثمت الأمة كلها.
2- ومن جهة ثانية، أن الأمة مطالبة بأن تكون في مكانة الأستاذية للأمم، التي يعبر عنها القرآن بـ “الشهادة على الناس”، وذلك في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).
وهذه المكانة التي بوأها القرآن للأمة توجب عليها أن تتفوق في كل ما يعزز مكانتها، ويعينها على أداء رسالتها الحضارية، وفي مقدمة ذلك العلم الذي جعله الله المرشح الأول لاستحقاق الإنسان منصب الخلافة في الأرض، كما تدل على ذلك آيات (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ {30} وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {31} قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ {32} قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ) (البقرة).
فلا يجوز للأمة المسلمة أن تظل عالة على غيرها، وأن ترضى بالبقاء في ذيل القافلة البشرية وموضعها في الطليعة.
3- ومن جهة ثالثة، أن الأمة يجب أن تكون سيدة في أرضها، لا سلطان لأحد عليها، فهي بالإسلام تعلو ولا تُعلى، وتحكم ولا تُحكم، وتعد ما استطاعت من قوة دفاعاً عن حرمتها، وذوداً عن دعوتها، وتمكيناً لحضارتها، وإرهاباً لعدو الله وعدوها.
وإذا كان العلم والتكنولوجيا التي هي ثمرته وسيلة لازمة لذلك، كان من الواجب الحتمي شرعاً اكتساب هذا العلم وكل ما يؤهل له ويعين عليه؛ تطبيقاً للقاعدة الشرعية المتفق عليها، وهي: “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.
4- ومن جهة رابعة، أن العلم الحديث ييسر على الإنسان كثيراً من أمور حياته، ويساعده على أداء واجباته، في وقت أسرع وبجهد أقل، وبصورة أفضل، ويسهل له أشياء لم يكن يحلم بها من قبل مجرد حلم.
ولا يجوز أن يحرم المجتمع المسلم ولا الفرد المسلم من ثمرات هذا كله، بل هو أولى الناس بالاستفادة من هذا العلم، الذي يعتبره نعمة من الله، (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 4)، والذي يجب أن يشكر الله تعالى عليها، وشكر النعمة باستخدامها فيما خلقت له، مما يحبه الله تعالى ويرضاه، لا مما يكرهه ويسخطه.
ثم إن الله تعالى يريد بالناس اليسر، ولا يريد بهم العسر، والشريعة تأمر بتحصيل المصالح الخالصة أو الراجحة، فإذا ثبت أن وراء هذا العلم تيسيراً ومصلحة فهو مطلوب شرعاً.
وقد استخدم المسلمون هذا العلم في طباعة المصاحف والكتب الدينية، ونشر العلم وتعليم الدين، وتسهيل أداء عبادته، مثل فريضة الحج، وغيرها، واليوم يجتهدون في استخدام الكمبيوتر في خدمة السُّنة النبوية والعلوم الشرعية واللغوية، فهو عون على الدين والدنيا.
5- ومن جهة خامسة، أن هذا العلم الذي نأخذه اليوم من الغرب، قد أخذه الغرب بالأمس منا، من حضارتنا، وهذا ما شهد به الغربيون أنفسهم، فهو، إذاً، بضاعتنا ترد إلينا، ولسنا بالغرباء عنه، ولا الدخلاء عليه.
صحيح أن العلم المعاصر لم يعد هو العلم الذي اقتبسه الغرب منا قديماً، فقد خطا خطوات واسعة، وقفز قفزات هائلة من عصر الصناعة الأول إلى عصر الصناعة الثاني، إلى ما نراه اليوم من تكنولوجيا متطورة، ومن نتائج بعيدة المدى، ومن طموحات تكاد تغير وجه الحياة، ولكن أصول هذا المنهج العقلية والعلمية أصول إسلامية، وقد قيل: “الفضل للمبتدي، وإن أحسن المقتدي”.
ومهما يكن الأمر في أصل هذا العلم ومصدره، فهو الآن في صورته الأخيرة علم غربي، شئنا أم أبينا، وهو كذلك أحد مستلزمات العصر، ولا معاصرة لنا إذا لم نعبه عباً، لا يكفينا منه مجرد الارتشاف، لا بد من الوصول إلى درجة “الإحسان” في هذا العلم، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء.
([1]) العدد (1092)، ص 46-48 – بتاريخ: 3 شوال 1414هـ – 15 مارس 1994م.