تعتبر شخصية السلطان الزنكي نور الدين محمود (511 – 569هـ) من الشخصيات العظيمة في تاريخ الأمة الإسلامية، فقد سار على طريق الخلفاء الراشدين ونهج الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز في تطبيق العدل والإنصاف، واستطاع أن يقود مشروعاً نهضوياً للتصدي للفكر الباطني والمشروع الصليبي الغازي، وقدمت دولته نموذجاً في مقارعة الغزاة؛ اعتمد على الله عز وجل، والمرجعية الحضارية لأمة الإسلام.
كما اتصف نور الدين زنكي بصفات القيادة الربانية في العِلم والذكاء والشعور بالمسؤولية، ومخافة الله، وخدمة الناس، وإقامة المؤسسات الاجتماعية والدينية والسياسية والعسكرية والخدمية، ورفع راية أهل السُّنة في مفهومها العظيم.
لم تكن مقاليد الحكم في دولة نور الدين محمود الزنكي أداة لخدمة أهداف الطبقة الحاكمة، كما هي الحال في كثير من الدول، والحكومات، ولا لتحقيق وحماية مصالح حفنة من البيروقراطيين، كما أنها لم تكن مجرد ذريعة عملية «براغماتية» لتسيير الشؤون المادية المنفعية الصرفة للدولة فحسب، بل إن هنالك أهدافاً أكبر بكثير، وقيماً ومبادئ أبعد مدى كان على أجهزة الدولة أن تسعى إلى تحقيقها في واقع الحياة، وأن تبذل ما تمتلكه من قدرات وخبرات للسير بالأمة قدماً صوب آفاقها الرحبة الشاملة.
إن تنفيذ شريعة الإسلام، وقيمه، ومبادئه في واقع الحياة، وبعث المجتمع الإسلامي كان هو الهدف المركزي لدولة نور الدين محمود، فهي إذاً دولة ملتزمة وليست صاحبة أغراض منفعية، وكسب، واحتراف، وقد أكد نور الدين هذه الحقيقة في أكثر من مناسبة، وحشد لها الكثير من الأقوال، والتأكيدات، والتصريحات، ودعا بحماس منقطع النظير إلى تحقيقها، وسعى -فعلاً- إلى أن تنتقل هذه الدعوة -رغم المصاعب والعقبات- من ميدان الفكر إلى ميدان التطبيق قال: «ونحن نحفظ الطرق من لصٍّ، وقاطع طريق، والأذى الحاصل منها قريب، أفلا نحفظ الدين ونمنع عنه ما يناقضه، وهو الأصل؟! (نور الدين محمود الرجل والتجربة ص 86).
وقال: «نحن شحن للشريعة نمضي أوامرها»، وقال مخاطباً أحدَ ولاته: «انظر في العوادي وما يجري فيها من الدعاوي، وميز بين المحاسن والمساوي، وأحمل الأمور فيها على الشريعة» (البرق ص 146 – 147).
وقال متحدثاً إلى اثنين من كبار موظفيه: «والله إني أفكر في والٍ وليته أمور المسلمين، فلم يعدل فيهم، أو فيمن يظلم المسلمين من أصحابي، وأعواني، وأخاف المطالبة بذلك أمام الله. فباللهِ عليكم.. وإلا فخبزي عليكم حرام، لا تريان قصة مظلوم لا ترفع إليَّ، أو تعلمان مظلمة إلا وأعلماني بها، وارفعاها إليَّ»، وقال فيما يلخص موقفه الملتزم بعبارة تثير الإعجاب: «إني جئت ها هنا امتثالاً لأمر الشرع» (كتاب الروضتين، 1/36 – 37).
ويقول أبو شامة: سمعت أبا شداد يقول: أمَّا فكره ففي إظهار شعائر الناس، وتأسيس قاعدة الدين، ويقول في مكان آخر: كان أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها، أو إرشاد إلى سُنة يتبعها. (كتاب الروضتين نقلاً عن نور الدين محمود، ص 87).
وكان نور الدين معتنياً بحفظ أصول الديانات، ولا يمكِّنُ أحداً من إظهار ما يخالف الحق، ومتى أقدم على ذلك أدَّبه بما يناسب بدعته، وكان لا يقدم على إجراءٍ ما عامٍّ، أو شخصي إلا بعد أن يستفتي الفقهاء، الذين كانوا أشبه بمجلس شيوخ تشريعي، أو هيئة استشارية تستلهم في قراراتها النهائية مؤشرات الشريعة الغراء، بحيث لا يقدم أحد في الدولة على عملٍ، أو إجراء إلا ويجيء ذلك العمل منسجماً مع فكر الدولة، وعقيدتها، وشريعتها. (نور الدين محمود، ص 87).
لقد بلغ من التزام نور الدين بكتاب الله، وسُنة رسوله عليه الصلاة والسلام حداً في غاية الروعة والجمال، وشدة المحبة لرسول الإسلام، فقد حكى الشيخ أبو البركات أنه حضر مع عمه الحافظ أبي القاسم مجلس نور الدين لسماع شيء من الحديث، فمرَّ أثناء الحديث: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج متقلداً سيفاً، فاستفاد نور الدين أمراً لم يكن يعرفه، وقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقلد السيف! يشير إلى التعجب من عادة الجند؛ إذ هم خلاف ذلك؛ لأنهم يربطونه بأوساطهم، فلما كان من الغد مرَّ؛ وأنا تحت القلعة، والناس مجتمعون ينتظرون ركوب السلطان، فوقفنا ننظر إليه، فخرج من القلعة، وهو متقلِّد السيف، وجميع عسكره كذلك، رحم الله الملك العادل نور الدين، الذي لم يفرط في الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بمثل هذه الحالة، بل لما بلغته رجع بنفسه، وردَّ جنده عن عوائدهم اتباعاً لما بلغه عن نبيه صلى الله عليه وسلم فما الظن بغير ذلك من السنن. (الكواكب نقلاً عن نور الدين محمود، ص 89).
ولقد تحققت في دولة نور الدين محمود آثار تحكيم شرع الله تعالى من التمكين، والأمن، والاستقرار، والنصر، والفتح المبين، والعز، والشرف، وبركة العيش، ورغد الحياة في عهده، وانتشار الفضائل، وانزواء الرذائل.. إلخ، وسوف تتضح بإذن الله تعالى هذه الآثار في هذا الكتاب.
إنَّ آثار تحكيم شرع الله في الشعوب التي نفَّذت أوامر الله ونواهيه ظاهرة بيِّنة لدارس التاريخ، وإنَّ تلك الآثار الطيبة قد رأيناها في دراستنا لدولة الخلفاء الراشدين، ودولة عمر بن عبدالعزيز، ودولة نور الدين زنكي، ودولة يوسف بن تاشفين، ودولة محمد الفاتح، وهي من سُنن الله الجارية والماضية لا تتبدل ولا تتغير، فأي قيادة مسلمة تسعى لهذا المطلب الجليل، والعمل العظيم مخلصة لله في قصدها، مستوعبة لسنن الله في الأرض؛ فإنها تصل إليه، ولو بعد حين، وترى آثار ذلك التحكيم على أفرادها، ومجتمعاتها، ودولها، وحكَّامها.
إن الغرض من الأبحاث التاريخية الإسلامية الاستفادة الجادة من أولئك الذين سبقونا بالإيمان في جهادهم، وعلمهم، وتربيتهم، وسعيهم الدؤوب لتحكيم شرع الله، وأخذهم بسنن الله وفقهه ومراعاة التدرج والمرحلية، والارتقاء بالشعوب نحو الكمالات الإسلامية المنشودة، إن التوفيقات الربانية العظيمة في تاريخ أمتنا يجريها الله تعالى على يديْ من أخلص لربه ودينه، وأقام شرعه، وقصد رضاه، وجعله فوق كل اعتبار، قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً﴾ (النساء: 65).
قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (النور: 55) (الخليفة الراشد والمصلح الكبير عمر بن عبد العزيز ص 357).
____________________
1- نور الدين محمود الرجل والتجربة، عماد الدين خليل.
2- كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، أبو القاسم شهاب عبدالرحمن بن إسماعيل المقدسي المشهور: بأبي شامة.
3- مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، سبط ابن الجوزي.
4- الخليفة الراشد والمصلح الكبير عمر بن عبدالعزيز، علي الصلابي.
5- الدولة الزنكية، د. علي محمد الصلابي.