كثير من الناس إذا ذكر اسم الداعية ينصرف ذهنه إلى الخطيب، وإذا ذكر اسم الخطيب ينصرف إلى الداعية، والحقيقة أن الداعية يختلف عن الخطيب، كما يختلف عملهما؛ إذ الخطيب يقتصر عمله في الغالب على أداء خطبة الجمعة، لتفعيل الناس بعدها، وتوضيح بعض المبهمات، والإجابة عن بعض التساؤلات، بينما عمل الداعية أشمل وأوسع وأعمق.
الداعية طبيب يطبب المجتمع من أدوائه، ويبرئه من علله، ويعالج مشكلات الناس، ويلبي حاجات المجتمع، فهو عقل قادر على الربط بين مشكلات المجتمع وثقافة الدعوة، يشخص فيه الداء؛ ليصف له الدواء.
وتمثل الخطابة إحدى وسائل الدعوة التي تشمل وسائل أخرى عديدة، منها: القدوة الحسنة والتعليم والتذكير، والكتابة بأنواعها، والترغيب والترهيب، والعمل المتواصل من أجل قضاء مصالح الخلق، والمشاركة في النشاطات الاجتماعية المختلفة، والقيام بكل ما يوصف بالعمل الصالح في مجتمع من المجتمعات، ومن الخير أيضاً أن نفرق بين المقومات من جانب والصفات أو الخصائص من جانب آخر، فالمقومات هي ما يكوِّن الداعية ذاته وينشئ بنيانه، أما الصفات والخصائص فهي شيء خارج عن تكوينه، فالمبنى مثلاً يتكون من مواد كوَّنت بناءه هذه هي المقومات، أما الصفات والخصائص فهي أن يكون المبنى مرتفعاً وحجراته واسعة، ولونه كذا.. إلخ، فالمقومات بتعبير المناطقة جوهر، بينما الخصائص والصفات عرض، ويطيب الحديث عن مقومات الداعية وخصائصه إذا كان موضوعها داعية كبيراً مثل الشيخ محمد الغزالي.
يرى الغزالي، ابتداءً، أن الناس لا غنى لهم عن هداية الله تعالى كما لا غنى لهم عن رزقه، فهم فقراء فيما يطعم أبدانهم من جوع، وفيما يزكي أرواحهم من كدر.
ومهما أوتي بعضهم من ذكاء أو صفاء، فإنه لن يستطيع تدبير شأنه وإصلاح أمره بعيداً عن وحي الله وتعليم أنبيائه.
إن الأمم إذا لم تنتعش برسالات السماء فهي جماهير من موتى القلوب، أو هي ألوف من الرمم الهامدة، وإن حركتها الغرائز السائلة، والأمم مهما ارتقت من الناحية النظرية أو الصناعية، فإن بعدها عن الله تعالى يزين لها من الجرائم ما تنحط به إلى الدرك الأسفل، وما تتعرض به لأوخم العواقب.
وما الجفاف الروحي، والانقطاع الرهيب عن الله رب العالمين، والصدود الغريب عن تراث النبيين، وغلبة الأثرة والجشع على الأقوياء، وسيادة المنطق المادي في كل شيء.. إلا نذير شؤم، وأي تقدم يحرزه العلم في تلك الميادين لا يبعث على التفاؤل ما لم يصحبه عود سريع إلى الله عز وجل، وإعزاز لأمره وإعلاء لشرعه([1]).
ويؤكد الشيخ دوماً أن تكوين الدعاة يعني تكوين الأمة، فالأمم العظيمة ليست إلا صناعة حسنة لنفر من الرجال الموهوبين، وأثر الرجل العبقري فيمن حوله كأثر المطر في الأرض الموات، وأثر الشعاع في المكان المظلم، وكم من شعوب رسفت دهراً في قيود الهوان، حتى قيض الله لها القائد الذي نفخ فيها من روحه روح الحرية، فتحولت بعد ركود إلى إعصار يجتاح الطغاة ويدك معاقلهم([2]).
إذا كان الأمر بهذه الأهمية، فليس كل إنسان بداهة يصلح أن يكون داعية، فقد يكون المرء عالماً كبيراً، ولا يكون داعية، فالداعية له خصائص قد لا تتوافر لغيره من العلماء الباحثين، والدعاة أنفسهم متفاوتون في حظهم من هذه الخصائص، وربما تبدو هذه الخصائص لأول وهلة نعوتاً عامة يجب وجودها في جماهير المسلمين، ولا يختص بها نفر من الناس، بيد أن هذه النعوت وإن كانت شائعة في عامة المؤمنين فإن أنصبة الدعاة من معناها يكون أربى وأزكى.
إن حقائق الدرس بعد أن يشرحها الأستاذ قد تظهر متساوية لدى الجميع، وقد يظن التلاميذ أنهم ومعلمهم أصبحوا سواءً في وعيها، وهذا بعيد، فإن الأستاذ لديه من رسوخ المعلومات ووضوحها ومن القدرة على تقليبها وعرضها ما يعز على غيره.
وقد يوجد في الناس من امتلأ قلبه بالإيمان، لكن هذا الإيمان لا يعدو أصحابه، والإناء لكي يرشح على ما حوله يجب أن يفيض، وأن ينزل فيه ما يزيد على سعته وما ينسكب من جوانبه، فنفوس الدعاة يجب أن يكون لديها مقادير من اليقين والحماس والفضل يتجاوزها إلى ما عداها، ويجعل الاستفادة منها ميسرة للآخرين([3]).
وقد استقرأنا استقراء سريعاً كتب الشيخ وتراثه فوجدنا أبرز خصائص الداعية الناجح ومقوماته تتمثل فيما يلي:
أولاً: حسن الصلة بالله تعالى:
وهي الصلة التي إليها يفيء الداعية ويرجع، وعليها يعتمد ويعول، ومنها يستمد ويقتبس، ولها يدعو ويبتهل، وعندها تجد نفسه راحتها وعزاءها.
والشيخ الغزالي يسميها الدعامة الأولى في أخلاق الدعاة، ولا يجوز عنده أن ينفك هذا الخلق عن داعية من الدعاة، إذ كيف تدعو الناس إلى أحد وصلتك به واهية، ومعرفتك به قليلة، وقد قال الله تعالى: (فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً) (الفرقان: 59)، ويشهد التاريخ أنه ما من نبي أو داعية أو مصلح إلا وكان له من حسن الصلة بالله النصيب الأوفر والقدح المعلى، وكانت صلته بالله قوية لا تخبو، حاضرة لا تغيب.
وإذا كان حسن الصلة بالله مطلباً ضرورياً لكل مسلم، فكيف يكون حكمها في شأن الداعية؟
إن الدعاة الذين يكرسون أوقاتهم لله تعالى، ولدفع الناس إلى سبيله وصفهم في طريقه لا بد أن يكون شعورهم بالله أعمق، وارتباطهم به أوثق، وشغلهم به أدوم، ورقابتهم له أقوى وأوضح.
يوضح الشيخ طبيعة هذه العلاقة بأنها روح ينفث الحياة، وينبض بالحركة والقوة، ويشيع الضوء والدف؛ (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (الأنعام: 122)، وهذه الصلة تشمل في موكبها أرقى ما في الحياة، وأكمل أسباب النجاة، ولهذا حق على الدعاة ألا يهنوا في الحياة وألا يهونوا، وألا يعدلوا بنسبتهم إلى الله شيئاً، وأن ينظروا إلى الحياة على أنهم أكبر منها، وأن تغلب رؤيتهم لله كل ما يملأ العين في زحام الأحياء وتكاثرهم([4]).
إن حسن الصلة بالله تعالى، ما دام الداعية مجتهداً مبلغاً يسدد الخطو، ويكمل النقص، ويجبر الكسر، ويجعل الداعية عزيزاً شامخاً؛ لأنه ينتسب إلى الركن الذي لا يميل، ويحتمي بالحمى الذي لا يُنال، ويعتمد على القوة التي لا تقهر.
ثانياً: إصلاح النفس:
وهو أمر واجب على كل مسلم، ونصيب الدعاة منه أقوى وألصق، ولعل إصلاح النفس ومعالجتها أولى ثمرات حسن الصلة بالله تعالى، فمن ذكر الله وأحسن به الصلة بصَّره بعيوب نفسه، وجعله منها على بصيرة، أما الذين نسوا خالقهم فهم يسيرون على غير هدى ويخبطون خبط عشواء؛ (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (الحشر: 19)، ونفس الداعية في فكر الشيخ الغزالي ينبغي أن تكون حقل تجارب([5]).
ومن النتائج المستفادة يعرف أفضل البذور وأنسب الأوقات وأجدى الأساليب، ومن صدق الداعية مع ربه في أخذ نفسه ابتداء يكون مدى ما يصيب من توفيق في عمله مع الناس.
إن من أخطر النقائص أن يدعو الداعية إلى خُلق وقلبه منه فارغ، أو ينهى عن خُلق ويراه الناس عليه، إنه والحالة كذلك لا يسيء إلى نفسه فحسب، إنما يسيء إلى غيره من الدعاة، بل يسيء إلى الإسلام ذاته.
يذكر الشيخ نوعاً من الدعاة يحسبون كل ما يقولونه لغيرهم ليس موجهاً إليهم، إنما هو أمر يخص المخاطبين فقط، إنهم نقلة فحسب وأشرطة مسجلة، أو أسطوانات معبأة، تدور بعض الوقت ليستمع الناس إليها وهي تهرف بما لا تعرف، ثم توضع في أماكنها لتدار مرة أخرى إذا احتیج إليها.
ومع أن هذا النوع أهون من سابقه، فإن الشيخ يقول عنهم: “هم آفة الإيمان وسقام الحياة، وهم الثقل الذي يهوي بالمثل العليا ويمرغها في الأوحال”([6]).
ولقد عاب القرآن الكريم على هذا الصنف فشبهه مرة بالحمار يحمل أسفاراً لا يدري قيمتها وما فيها من نور وهدى؛ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة: 5)، ومرة أخرى بالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث؛ (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (الأعراف).
وتسير عبارات الشيخ في خط مواز لهذا الكلام القاسي والمنفر عن هذا الخلق الذميم، فيقول يرحمه الله: “إن الرجل القذر البدن لا يغني عنه أن يحمل بين يديه قطع الصابون، والكريه الرائحة لا يجديه أن يرى ومعه زجاجات من العطور، ودعاة الدين الذين تهب من سيرتهم سموم حارقة، إنما هم عار على الدين وصد عن سبيله”([7]).
وفي هذا المقام نذكر قول الشاعر:
يا أيها الرجل المعلم غيره هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى كيما يصح به وأنت سقيم
ونراك تنصح بالرشاد عقولنا أبداً وأنت من الرشاد عديم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يُؤخذ بالكلام ويُشتفي بالقول منك وينفع التعليم
ثالثا: ذكاء العقل ونقاء القلب ودقة الفهم:
وهذه فطرة يُفطر عليها الداعية، تجعله يقدر الأمور بمقدارها، ويضع كل شيء في مكانه، ويزن كل شيء بالقسطاس المستقيم، وباختصار تعبر عنها كلمة “الحكمة”؛ (يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ) (البقرة: 269)، ويوضح الشيخ مراده بذكاء العقل قائلاً: “ولا أريد بالذكاء عبقرية فائقة، يكفي أن يرى الأشياء كما هي دون زيادة أو نقص، فقد رأيت بعض الناس مصابة بحول فكري لا تنضبط معه الحقائق، قد يرى العادة عبادة، والنافلة فريضة، والشكل موضوعاً، ومن ثم يضطرب علاجه للأمور، وتصاب الدعوة على يديه بهزائم شديدة”([8]).
كما يبين مراده بنقاء القلب فيقول: “لا أريد بنقاء القلب صفاء الملائكة، وإنما أنشد قلباً محباً للناس، عطوفاً عليهم لا يفرح في زلتهم، ولا يشمت في عقوبتهم، بل يحزن لخطئهم ويتمنى لهم الصواب”([9]).
وفي فكر الغزالي -بل في أي فكر مستقيم- ينتج عن دقة الفهم عند الداعية التشخيص الصحيح للعلة التي أمامه، وتهيئة شفاء مناسب لها من كلام الله ورسوله، وبذلك يجيء نصحه طباً للمريض، ورحمة تُذهب عناءه، ونور يهديه السبيل.
والقدرة على هذا الأسلوب لا يلقاها إلا من استجمع ثروة طائلة من نصوص الكتاب والسُّنة تكون رصيداً عنده لأي داء وافد أو مرض عارض وإحاطة تامة بطبيعة البيئة وأحوالها الخفية والجلية، وظروفها القريبة والبعيدة، ليكون ذا خبرة واعية بالميدان الذي سيعمل فيه، حتى يدرك كيف يصلح دنيا الناس بدين الله([10]).
ذلك أنه هناك دعاة يعيشون في الماضي البعيد، وكأن الإسلام دين تاريخي، وليس حاضراً ومستقبلاً، والغريب أنك قد تراه يتحامل على المعتزلة والجهمية مثلاً، وهو محق في ذلك، ولكنه ينسى أن الخصومات التي تواجه الإسلام قد تغيرت وحلت حقائق وعناوين أخري([11]).
إن الداعية الذي لا يجمع بين الذكاء والنقاء يثير مشكلات معقدة أمام انتشار الإسلام، فلا دين إذا لم يتكون القلب النقي والعقل المؤمن، فمن فقد الضمير الصاحي والفكر الذكي فلا خير فيه([12]).
رابعاً: الإخلاص:
ولا يتعجب القارئ من تأخير الإخلاص بعد حسن الصلة بالله وإصلاح النفس والذكاء والنقاء، فلا يغني الإخلاص شيئاً إذا كانت صلة الداعية بالله واهنة، بل هما متلازمان، وكذلك الأمر إذا كان مخلصاً ولا يتعهد نفسه بالعلاج والمجاهدة، أو يخالف قوله فعله، وهل يغني الإخلاص عن ذكاء العقل ونقاء القلب شيئاً مذكوراً؟
إن الدعوة الإسلامية لأشد ما عانت من قوم لا يشكك أحد في إخلاصهم وتجردهم لله تعالى لكنهم فاتهم كثير من حسن الفهم وعمق التجربة؛ فأساؤوا إلى الإسلام من حيث أرادوا الإحسان ولقيت الدعوة على أيديهم ما لم تلقه من أعدائها.
والإخلاص هو روح الدين ولباب العبادة وشرط قبول العمل، فلا يقبل الله من الأعمال إلا ما كان خالصاً وابتغي به وجهه، وقد قال ابن عطاء الله قديماً: “الأعمال صور قائمة، وأرواحها وجود سر الإخلاص فيه”.
وإذا كان الإخلاص فريضة على كل عابد، فهو في حق العامل والداعي أفرض وأوجب، وغني عن الذكر ما ورد في القرآن من آيات وفي السُّنة من أحاديث تحض على الإخلاص في العمل والعبادة، وتحذر من الشرك بالله وابتغاء غير وجهه تعالى بالعمل.
إن الداعية المرائي -في فكر الشيخ- يقترف جريمة مزدوجة، إنه في جبين الدين سُبة متنقلة وآفة جائحة، وتقهقُرُ الأديان في حلبة الحياة يرجع إلى مسالك هؤلاء الأدعياء، وقد رويت آثاراً كثيرة تفضح سيرتهم وتكشف عقباهم، والذي يحصي ما أصاب قضايا الإيمان من انتكاسات على أيدي أدعياء التدين لا يستكثر ما أعد لهم في الآخرة من ويل، والعمل الخالص الطيب -ولا يقبل الله إلا طيباً- هو الذي يقوم به مصاحبه بدوافع اليقين المحض وابتغاء وجه الله تعالى، دون اكتراث برضا أو سخط، ودون تحرٍّ لإجابة رغبة أو كبح رغبة([13]).
وعامة الناس يعرفون أن النية الصالحة تنقذ صاحبها من ورطات شتى، وأن النية المدخولة يصحبها العثار والشرود، وقد وعد الله المؤمنين الأتقياء بأنه جاعل لهم نوراً يمشون به، فمن أدركه شعاع هذا النور لزم الصراط السوي، وتجنب المزالق المخوفة؛ (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ) (النور: 40)([14]).
خامساً: الثقافة الموسوعية:
فقر الثقافة للدعاة يمثل -في فكر الشيخ- خطراً أشد من فقر الدم، وأسوأ عقبى من الفقر المالي، والشعب الذي يعاني الغباء والتخلف لا يصلح للمعالي ولا يستطيع حمل رسالة كبيرة([15])، فغزارة الثقافة وسعة الأفق وروعة الحصيلة العلمية خِلالٌ لا بد منها لأي داعية موفق، وكيف لا والداعية يواجه طبقات شتى واهتمامات متعددة تختلف باختلاف الناس، إنه يخاطب الطبيب والمهندس والأستاذ والمعلم والعامل والصانع والحائك والتاجر والمتعلم والجاهل والمؤدب وسيئ الأدب والعاقل والأحمق، إنه يحتاج إلى ثقافة تضم هؤلاء جميعاً وتؤثر فيهم.
ولهذا، يطلق الشيخ الغزالي العنان في الثقافة أمام الداعية، يقول: “إن الداعية المسلم في عصرنا هذا يجب أن يكون ذا ثروة طائلة من الثقافة الإسلامية والإنسانية، بمعنى أن يكون عارفاً للكتاب والسُّنة والفقه الإسلامي والحضارة الإسلامية، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون ملماً بالتاريخ الإنساني وعلوم الكون والحياة والثقافات الإنسانية المعاصرة التي تتصل بشتى المذاهب والفلسفات، ويحتاج الداعية المسلم في هذا العصر إلى بصر بأساليب أعداء الإسلام على اختلاف منازعهم، سواء كانوا ملحدين ينكرون الألوهية أو كتابيين ينكرون الإسلام([16]).
كما يحتاج الداعية إلى علوم العربية والأدب شعراً ونثراً، فالداعية الذي يشعر بغربة في ميدان الأدب يجب أن يترك ميدان الدعوة لفوره، فإن الذي يحاول خدمة الرسالة الإسلامية دون أن يكون محيطاً بأدب العربية في شتى أعصارها إنما يحاول عبثاً، وأنى لرجل محروم من حاسة البلاغة أن يخدم ديناً كتابه معجزة بيانية ورسوله صلى الله عليه وسلم إمام للحكمة وفصل الخطاب؟!([17]).
ويركز الغزالي في الثقافة على فهم القرآن أولاً قبل السُّنة بالذات لأن السُّنة مبينة له، وشارحة لغامضه، وموضحة لمبهمه، وقد قال الله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (النحل: 44)، فالنفس الإنسانية لا تدرك أطرافاً من الكمال الأعلى يغرس في أعماقها أروع العقائد وأرسخ الإيمان إلا إذا اتصلت بهذا القرآن واستمعت إليه وفتحت أنظارها لهديه([18]).
سادساً: صفات جامعة:
وهناك صفات أخرى عديدة لعل أهمها الشجاعة والجرأة ما دام الداعية على حق في مواجهة باطل، وهي صفة يسقط عندها كثير من الدعاة إلا من عصم الله وسدد، ذلك أن فتن الحياة كثيرة، فهذه رغبة في مال أو منصب تُثني، وتلك رهبة عن طريق رزق أو ولد تصد، وهذا سلطان يخيف، وذاك جبار يُقعد، إن الفتن من حول الإنسان كفيلة أن تقعد الداعية وتثنيه عن قولة الحق والصدع بها ما لم يكن معه من الإيمان وحب الحق والطهر ما يجعله يوضح معالم الهدى ويعلي كلمة الله تعالى.
والشجاعة في الجهر بالحق عند الشيخ تنبعث من اجتماع خلقين عظيمين؛ أولهما: امتلاك الإنسان نفسه، وانطلاقه من قيود الرغبة والرهبة، وارتضاؤه لوناً من الحياة بعيداً عن ذل الطمع، وشهوة التنعم، فكم من داعٍ يبصر الحق ويقدر على التذكير به، ولكنه يحتبس في حلقه فلا يسمع به أحد، لماذا؟ لأنه لو نطق لحرم من هذا النفع، أو لغضب عليه هذا الرئيس، أو لفاته هذا الحظ، فهو إيثاراً لمتاع الدنيا يلزم الصمت ويظلم اليقين([19]).
ومن هذه الصفات الجامعة التواضع والرحمة والتهلل والبشاشة والإنصاف والمروءة والوفاء وكل ما يزين المسلم فضلاً عن الداعية([20]).
وأختم بكلمة للشيخ تعبر أصدق تعبير وتدل أتم دلالة وأصدقها على ما يجب توفيره في الداعية، بحيث تصير هذه الكلمة علماً يهتدى به ووميضاً يبرق للعاملين، يقول: “ولو ذهبنا نستقصي الخلال التي تلزم لمن يتعرضون لهذا المنصب لطال حبل الحديث، فلنكتف بذكر هذه الحقيقة، إن الداعية يؤدي وظيفة سبقه النبيون إليها، وإنه أحق الناس باقتباس شمائلهم، والاقتداء بهداهم، وأخذ الأسوة من محياهم ومماتهم، وأنجح الناس في أداء هذه الرسالة من ترى وراثات النبوة في خلقه وسلوكه، وعبادته وجهاده وتضحياته، وكبريائه على الدنيا، ومقاومته لفتنتها، ومعاملته لذوي السلطان غير راغب ولا راهب([21]).
___________________________________________________
([1]) مع الله، دراسات في الدعوة والدعاة: 15، 17، 19، دار الكتب الإسلامية القاهرة. ط. سادسة.
([3]) مع الله، ص 166، وفي موكب الدعوة 83، طبع نهضة مصر القاهرة، ط. أولى 1997م.
([4]) مع الله: 167 – 168، وعلل وأدوية: 166 – 167، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، ط. ثانية، 1405هـ، والغزو الثقافي يمتد في فراغنا: 210، مؤسسة الشرق للعلاقات العامة والنشر والترجمة الأردن ط. ثانية، 1980م.
([8]) الحق المر: 135، مركز الإعلام العربي القاهرة ط. ثانية، 1417هـ، وراجع خطب الشيخ محمد الغزالي في شؤون الدين والحياة 1/17 دار الاعتصام القاهرة بدون تاريخ.
([9]) السابق: نفس الصفحة، يراجع خطب الشيخ محمد الغزالي 1/16.
([10]) مع الله: 173 – 174 – 179.
([11]) خطب الشيخ محمد الغزالي: 1/16.
([12]) الحق المر، ص 136-141، وعلل وأدوية، ص 208 – 210.
([13]) مع الله، ص 180-181-184.
([15]) راجع مثلاً كنوز من السُّنة 12 ضمن إصدارات مهرجان القراءة للجميع 1999م.
([16]) خطب الغزالي في شؤون الدين والحياة (1/16)، وانظر، مع الله، ص 195، وما بعدها، وراجع بتوسع ثقافة الداعية للشيخ يوسف القرضاوي.
([18]) راجع تركيز الشيخ على القرآن والاهتمام بفهمه في هموم داعية، ص 31-33- 147-149، ومشكلات في طريق الحياة الإسلامية، ص 82-83 ضمن سلسلة كتاب الأمة، كنوز من السنة، ص 12-14، والغزو الثقافي، ص 211-214، ومع الله، ص 21-377، وما بعدها، ولعل أكبر ما يشير إلى ذلك عند الشيخ مؤلفاته التي خلفها عن القرآن وتفسيره.
([20]) راجع مثلاً: الحق المر، ص 121، وفي موكب الدعوة، ص 73، وتأملات في الدين والحياة، ص 187-190،۷ طبع دار الدعوة الإسكندرية، ط. أولى 1410ه.ـ