ودعت الأمة الإسلامية في أسبوع واحد عالمين كبيرين؛ أولهما: الداعية الإسلامي الكبير الشيخ محمد الغزالي، وثانيهما: الإمام الأكبر الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الجامع الأزهر، وكلاهما في التاسعة والسبعين من عمرهما، فقد ولد الأول في سبتمبر 1917م، وولد الثاني في أبريل من السنة نفسها.
وموت العلماء، كما جاء عن السلف، مصيبة كبيرة، حتى قال بعضهم: لموت جماعة كبيرة أيسر عند الله من موت عالم!
وقال آخر: إذا مات العالم ثلمت في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا عالم غيره.
ومن أشد الأخطار على الأمة أن يموت العلماء، فيخلفهم الجهلاء، الذين فرغت رؤوسهم من العلم، وقلوبهم من التقوى؛ فيفتون الناس بغير علم، فيضلون ويضلون.
وهذا ما نبه عليه الحديث الصحيح المتفق عليه الذي رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا”، وهذا مؤذن بقرب خراب الدنيا، واقتراب الساعة.
ولا غرو أن حزن المسلمون في أنحاء العالم على وفاة الشيخين الجليلين، رحمهما الله، وغفر لهما وأسكنهما فسيح جناته.
أما الشيخ الغزالي، فقد كتبتُ عنه كلمة نشرت في الأسبوع الماضي.
بل كتبتُ عنه كتاباً كاملاً، وأما الشيخ جاد الحق فلا أعرفه كما عرفت الشيخ الغزالي وصحبته واقتربت منه نصف قرن من الزمان، وإنما لقيته مرات قليلة في بعض المؤتمرات والندوات، فما علمت عنه إلا خيراً، وعرفت بعض أخباره من الصحف وأجهزة الإعلام، ومن بعض من عاشروه.
الحق أن الرجل قدر جلالة المنصب الذي تبوأه من قبله رجال كبار، أمثال المراغي، وعبد المجيد سليم، والخضر حسين، وشلتوت، وعبد الحليم محمود، فلم ينزلق بالأزهر إلى الفتاوى التي زلت فيها أقدام آخرين، وحافظ على كرامة الأزهر ومجمع بحوثه، الذي يمثل السلطة العليا للفتوى في الشؤون الإسلامية في مصر.
وكان متعاوناً مع العاملين في الحقل الإسلامي، واقفاً كالصخرة الصماء في وجه العلمانيين والمتغربين الذين يريدون أن يسلخوا الأمة جلدها، وأن يبعدوها عن شريعة ربها، فلم تلن قناته في مواجهتهم وتحدي أباطيلهم.
رأينا ذلك بجلاء في موقفه من محاولات “مؤتمر السكان” الذي عقد بالقاهرة، فقد رفض باسم الأزهر ما فيه من اتجاه إلى الإباحية الجنسية، وشرعية الإجهاض، وإباحة الشذوذ للرجال والنساء، وانتزاع حق الآباء في الإشراف على تربية أولادهم.. إلخ.
وكذلك “مؤتمر المرأة” الذي عقد في بكين، فقد شكَّل لجنة للرد على وثيقة هذا المؤتمر، وشارك النقابات التي عنيت بهذا الأمر مثل نقابة الأطباء، وقد حضر اجتماعاً في دار الحكمة في الصيف الماضي حول هذا الموضوع، شارك فيه مندوب شيخ الأزهر، وتكلم كلاماً طيباً.
ولا يكاد يخلو مؤتمر مهم من وجود مندوب عن الأزهر وشيخه، لاحظت ذلك في الكويت، وفي السعودية، وفي موسكو، في مؤتمر الأديان والتفاهم بين الشعوب، وقد ألقى مندوب الشيخ فيه كلمة حازت القبول.
وفي الأيام الأخيرة، أفتى بعدم السفر إلى الصلاة في القدس حتى تتحرر وتعود إلى أهلها، وهم العرب والمسلمون، وهو نفس ما أفتيت به والحمد لله.
وقد رد على اليهود في قولهم: إن القدس عاصمة أبدية لهم، وقال: إنها عاصمة أبدية للمسلمين، وما دامت للمسلمين فهي لكل الأديان، كما كانت طوال التاريخ لمدة ثلاثة عشر قرناً أو تزيد.
وفي قضية فيلم “المهاجر” الذي يمثل قصة سيدنا يوسف، وقف ضده، وحكمت محكمة النقض بمصادرته ومنعه.
ولا ننسى موقفه الصلب في قضية فوائد البنوك، والمجاهرة بأنها هي الربا المحرم بنص القرآن والسُّنة وإجماع مذاهب الأمة، وهو ما قرره مجمع البحوث الإسلامية منذ عهد الشيخ محمود شلتوت، رحمه الله.
ربما عابه بعض الناس أن نزعته تقليدية في الفقه، ولهذا وقف في قضية “ختان البنات” وقفة شديدة، وتبنى أشد الآراء فيها، والأمر أهون من ذلك، ولذلك اختلف فيها المسلمون فقهاً وعملاً، فالبنات في بلاد الخليج وفي بلاد الشمال الأفريقي وبلاد شتى لا يعرفن هذا الختان.
غير أني أقول: إن الرجل في فتواه لم يخرج عن دائرة الفقه، وأفتى بما يراه صواباً، ولا يلام المرء على ذلك، وهو لم يدَّعِ يوماً أنه مجدد أو مجتهد.
ورأيي أن صاحب النزعة التقليدية في الفقه أفضل من أولئك الذي يدعون الاجتهاد والتجديد، وهم ليسوا له بأهل، فيحلون ما حرم الله، ويسقطون ما أوجب الله، ويشرعون في الدين ما لم يأذن به الله.
لقد كان الشيخ جاد الحق صادقاً مع نفسه، صادقاً مع أمته، صادقاً –قبل ذلك كله– مع ربه، فلم يبال برضا الناس فيما يعتقد أنه الحق.
وقد كان رجلاً مهذباً، صاحب خلق وفضل، تطاول عليه بعض الناس وهاجموه، فقابلهم بالصمت والتعفف، ودفع السيئة بالحسنة؛ فالحياة أغلى من أن تضيع في المهاترات.
وكانت عقليته عقلية القاضي الذي ينظر إلى الأمور بهدوء واتزان، دون غضب وانفعال، ثم يحكم بما يراه أدنى إلى الصواب.
ولقد اتسع الأزهر في عهده؛ معاهد وكليات، إتماماً وامتداداً لما قام به الرجل الصالح الشيخ عبد الحليم محمود، غفر الله له.
كما رأس الشيخ جاد الحق المجلس الإسلامي الأعلى للدعوة والإغاثة، وقد أسس في عهده، رحمه الله، وهذا جعله يتصل بالجمعيات والمؤسسات العاملة في هذه الساحة المهمة، وقد رأوا فيه رجلاً خيِّراً غيوراً على الإسلام، لا يدخر وسعاً في مساعدة الذين يعملون لخدمته.
رحم الله عالمنا الكبير الشيخ جاد الحق، وجزاه عن الأزهر ومصر والإسلام خير ما يجزي العلماء العاملين والرجال الصالحين، اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلفنا فيها خيراً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
* العدد (1193)، ص39 – 7 ذو القعدة 1416هـ – 26/3/1996م.