زواج المسيار والزواج العرفي قد يلتقيان وقد يفترقان، فبينهما عموم وخصوص من وجه، كما يقول علماء المنطق: يجتمعان في صورة، وينفرد كل منهما في أخرى.
فالزواج العرفي زواج شرعي غير مسجَّل، ولا موثق ولكنه زواج عادي، يتكلف فيه الزوج السكن والنفقة للمرأة، وفي الغالب يكون الرجل متزوجاً بأخرى، ويكتم عنها هذا الزواج لسبب أو آخر.
وزواج المسيار قد يكون غير مسجَّل فيكون عرفياً، وقد يكون مسجلاً وموثقاً، كما هو واقع في كثير من الأحيان، وأنا أرجح أن يسجل هذا الزواج ويوثق بشروطه حفظاً للحقوق، وضماناً للمستقبل، وحرصاً على سهولة ثبوت نسب الأولاد لأبيهم وميراثهم منه، فهذا ما يجوز التنازل عنه، فإذا كان للزوجة التنازل عن بعض حقوقها، فليس لها التنازل عن حقوق أولادها.
كما أن طاعة أولي الأمر هنا واجبة شرعاً، لأنها طاعة في معروف، فهم لم يأمروا بهذا ويوجبوه إلا لمصلحة الناس، وخشية أن يتناكروا وتضيع الحقوق بينهم، وفي الحديث: “إنما الطاعة في المعروف”، وفي الحديث الآخر: “السمع والطاعة حق على المرء المسلم فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمِر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة”.
ومع هذا لا أستطيع أن أبطل العقد إذا لم يسجَّل، ما دام مستوفياً أركانه وشروطه، فإن إبطال العقد أمر خطير، يترتب عليه أن تعتبر العلاقة بين الرجل والمرأة محرمة، وإن ولد بينهما ولد فهو ابن حرام، وقد كان المسلمون طوال القرون الماضية يتزوجون بلا توثيق.
قوانين الأحوال الشخصية
وقوانين الأحوال الشخصية في البلاد العربية التي ألزمت بالتوثيق والتسجيل للعقود اكتفت في الزواج العرفي بأن قالت: لا تسمع فيه الدعوى، ولم تقل ببطلانه.
ويقول بعض المعترضين على زواج المسيار: إن هذا الزواج لا يحقق كل الأهداف المنشودة من وراء الزواج الشرعي، فيما عدا المتعة والأنس بين الزوجين، والزواج في الإسلام له مقاصد أوسع وأعمق من هذا من الإنجاب والسكون والمودة والرحمة، وهذا يتفق مع رواية نقلت عن الإمام أحمد في زواج النهاريات أو الليليات، قال: ليس من نكاح الإسلام، يعني ليس هو النكاح الكامل، كما يقول: “ليس بمؤمن من لا يحب لأخيه ما يحب لنفسه”.
وأنا لا أنكر هذا، وأن هذا النوع من الزواج ليس هو الزواج الإسلامي المثالي المنشود، ولكنه الزواج الممكن، الذي أوجبته ضرورات الحياة، وتطور المجتمعات وظروف العيش، وعدم تحقيق كل الأهداف المرجوة لا يلغي العقد، ولا يبطل الزواج، وإنما يخدشه وينال منه، وقد قيل: ما لا يدرك كله لا يترك كله، والقليل خير من العدم.
هب أن رجلاً تزوج امرأة في سن اليأس لم تعد صالحة للحمل، فهل في ذلك مانع شرعاً؟
وهب أن رجلاً تزوج امرأة “نكدية” كدرت عليه حياته، ونغصت عليه عيشه، ولم يجد معها سكينة ولا مودة ولا رحمة، هل يفسخ العقد بينهما بذلك؟
إن تحقيق الزواج لأهدافه كلها هو المثل الأعلى الذي يصبو إليه المسلم والمسلمة، ولكن ما كل ما يتمنى المرؤ يدركه، والمسلم يحاول أن يحصل من هذه الأهداف ما يقدر عليه.
والأصل في الزواج أن يعيش الزوج مع زوجته ليلاً ونهاراً، صيفاً وشتاء، ولكن كثيراً من الأزواج يسافرون في مهام تجارية أو صناعية أو وظيفية أو غيرها ويتركون زوجاتهم أياماً وليالي، بل أشهراً عدة في بعض الأحيان، وهذا لا يبطل الزواج القائم.
ولهذا اشترط بعض المذاهب ألا يغيب الزوج عن زوجته أربعة أشهر، وبعضها قال: ستة أشهر متصلة إلا لضرورة، أو بإذن الزوجة.
وكان الناس في بلاد الخليج أيام الغوص يتغربون عن وطنهم وأهليهم بالأشهر، وبعضهم كان يتزوج في بعض البلاد الأفريقية أو الآسيوية التي يذهب إليها، ويقيم مع المرأة الفترة التي يبقى فيها في تلك البلدة، التي تكون عادة على شاطئ البحر، ويتركها ويعود إلى بلده، ثم يعود إليها مرة أخرى، إن تيسر له السفر.
فهذا زواج اقتضته الحاجة، ورضيت به المرأة وأهلها، وهم يعلمون أن هذا الرجل لن يبقى معهم إلى فترة من الزمن وقد يعود إليهم وقد لا يعود، ولم يعترض على هذا الزواج معترض.
وأحب أن أقول لبعض الإخوة الذين يهوّنون من هدف الإمتاع والإحصان، ويحقرون من شأن المرأة التي تتزوج لتستمتع بالرجل في الحلال، ولا تفكر في الحرام، ويعتبرون هذا انحطاطاً بكرامة المرأة، ونزولاً بقدرها، أحب أن أقول لهؤلاء كلمة صريحة:
إن هدف الإمتاع والإحصان ليس هدفاً هيناً، ولا مهيناً كما تتصورون وتصوِّرون، بل هو أول أهداف الزواج، ولهذا لا يجوز التنازل عنه في العقد، وفي الحديث الصحيح المعروف: “يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج”.
وفي القرآن الكريم: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ) (البقرة: 187)، بل عرف الفقهاء النكاح بأنه: عقد لحل التمتع بأنثى خالية من الموانع الشرعية، وإن كنت أرى أن التمتع للطرفين، الرجل والمرأة كليهما، كما أشارت الآية: (هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ).
فالعفة والإحصان قيمة كبيرة من قيمنا الإسلامية، وهي مما يميز مجتمعنا عن المجتمعات السائبة المتحللة، وحاجة الرجل إلى المرأة، وحاجة المرأة إلى الرجل حاجة فطرية، ولا ينظر الإسلام إليها نظرة بعض الأديان الأخرى أنها قذارة أو رجس، بل هي غريزة فطر الله الناس عليها، ولا بد من تسهيل الطرق الشرعية إليها، حتى لا يضطر الناس إلى ارتكاب الحرام، ولا سيما في عصر فتحت فيه أبواب المحرمات على مصاريعها، وكثرت فيه المغريات بالمنكر، والمعوقات عن المعروف.
إن الإسلام لم يستنكف عن الاستمتاع الجنسي، ولم يقلل من شأنه إذا كان حلالاً، بل قال الرسول الكريم: “وفي بضع أحدكم صدقة”، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: “أليس إذا وضعها في حرام، كان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر”.
والمجتمع الغربي المعاصر –في إطار حضارته المادية الإباحية المعاصرة– حل هذه المشكلة؛ مشكلة الغريزة الجنسية، وحاجة الرجل والمرأة الفطرية كليهما للآخر، بإطلاق العنان لكل منهما، يستمتع بصاحبه بلا عقد ولا رباط، ولا مسؤولية أخلاقية ولا دينية ولا قانونية.
أجل، حل الغرب هذه المشكلة عن طريق ما سموه “البوي فرند” و”الجيرل فرند”.
ونحن لا نملك أن نحل هذه المشكلة بهذه الطريقة؛ إذ لا بد عندنا من عقد ومن رباط شرعي، فلماذا يحقر بعض الناس هذا الجانب المهم في حياة الإنسان، وهو جانب فطري لا حيلة في دفعه؟ ولماذا يتظاهرون وكأنهم ملائكة مطهرون لا يحتاجون إلى الجنس، ولا يفكرون فيه؟
خشية ابتزاز الرجال للنساء
ويخشى بعض المعترضين على هذا الزواج أن يكون وسيلة لابتزاز الرجل للمرأة، ما دام يشعر أنها محتاجة إليه، وأن لديها مالاً وثروة، فهو يضغط عليها ليبتزها، ويستفيد منها، وهذا قد يحدث من غير شك، ولكنه كما يحدث في زواج المسيار يحدث كثيراً في الزواج العادي، وأنا شخصياً أتلقى رسائل كثيرة وهواتف أكثر من زوجات موظفات يشتكين من أزواجهن الذين يتسولون على معاشهن، ويتحكمون في رواتبهن، ولا يمكنونهن من فتح حساب في البنك خاص بهن، ولا يسمحون لهن بمساعدة أهلهن الفقراء من آباء وأمهات أو إخوة وأخوات.
فهذا أمر مرجعه إلى الإيمان والأخلاق، وسيظل قائماً ما دام إيمان الناس واهناً، وما دامت أخلاقهم سقيمة.
زواج المسيار وقوامة الرجل
ويقول بعض المعترضين: إن زواج المسيار يناقض ما قرره الله تعالى من حق الرجل في القوامة على المرأة، والمسؤولية عن الأسرة لأنه لا ينفق على المرأة، ولا يتحمل تبعتها في السكن والنفقة، ونقول: إن الله تعالى جعل القوامة للرجل على النساء بأمرين:
أولهما: بما فضل الله بعضهم على بعض.
وثانيهما: بما أنفقوا من أموالهم.
أما الأول فيراد به: ما خص الله به الرجل من قدرة على التحمل والصبر على متاعب القيادة، ومسؤوليتها أكثر من المرأة، وأما الثاني فيكفي الرجل هنا أن يدفع الصداق حتى يقال: إنه أنفق من ماله، ولهذا يستحق القوامة بمجرد الدخول قبل بدء النفقة اليومية.
فهذا وذاك كافيان في أن يكون الرجل قواماً ومسؤولاً، ولا يعني قبول الرجل تنازل المرأة عن النفقة أن يتنازل هو عن القوامة.
المسيار.. وزواج المتعة
ويقارن بعض المعترضين بين زواج المسيار وزواج المتعة، ولا يخفى أن ثمة فرقاً كبيراً بين زواج المتعة وزواج المسيار.
زواج المتعة زواج مؤقت، محدود بمدة معينة مقابل مهر أو أجر معين، ويكون المهر أو الأجر عادة على قدر المدة، فأجر الأسبوع، غير أجر الشهر، غير أجر السنة، وبمجرد انتهاء المدة ينتهي هذا الزواج تلقائياً، لا يحتاج إلى طلاق ولا فسخ ولا شيء، فالمدة جزء لا يتجزأ من صلب العقد.
أما زواج المسيار فهو زواج دائم، لا دخل للمدة فيه، ولا ينتهي إلا بطلاق أو خلع أو فسخ من القضاء.
والشيعة أجازوا زواج المتعة، ولكنهم لم يعتبروا المتزوجة بالمتعة من النساء الأربع اللاتي يجوز للمسلم أن يتزوجهن.
المسيار.. وزواج المحلل
وأغرب من هذا ما ذكره بعض الإخوة المعترضين من المقارنة بين زواج المسيار وزواج المحلل، الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولعن فاعله، قال: “لعن الله المحلل والمحلل له”، وسمي في بعض الأحاديث: “التيس المستعار”، وقال: “ألا أخبركم بالتيس المستعار؟ المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له” (رواه ابن ماجه)، وليت شعري أين هذا من ذاك؟ ما أبعد الفرق بين زواج المسيار وزواج المحلل.
زواج المحلل زواج غير مقصود تفاهم عليه الرجل والمرأة، وقصداه، بعد أن تعارفا واتفقا.
وهو زواج دائم ككل زواج يعمد إليه المسلم والمسلمة، فالأصل في الزواج هو نية الاستمرار والبقاء.
على أن زواج المحلل نفسه فيه خلاف كثير عن الحنفية وغيرهم، خصوصاً إذا أضمراه في أنفسهما، ولم يذكر في العقد، حتى في داخل المذهب الحنبلي نفسه يوجد خلاف، ولكني مع شيخ الإسلام ابن تيمية في ترجيح تحريمه وسد الباب إليه.
المسيار.. والتعدد
ويقول بعض المعترضين: ولماذا نلجأ إلى المسيار، وعندنا تعدد الزوجات وقد شرعه الله تعالى لنا بشرطه؟
ونقول لهم: وهل المسيار إلا لون من التعدد؟ لا أتصور شاباً يدخل الحياة الزوجية لأول مرة، يدخلها “مسياراً”، ولماذا لا يقيم مع زوجته هذه مستمراً، ليلاً ونهاراً، إذا لم يكن له زوجة أخرى وبيت آخر؟
الواقع أن الذي يلجأ إلى هذا الزواج تكون له زوجة أولى، وله بيت مستقر، وفي الغالب له من زوجته أولاد وتزوج هذه الزوجة الثانية، وربما تكون الثالثة، بهذه الصورة أو بهذه الطريقة لحاجته إلى زوجة أخرى كما يحتاج الرجل إلى الزواج الثاني، لسبب أو لآخر، ويجد المرأة الملائمة له فيتزوجها.
المسيار.. والكتمان
ويقول بعض الإخوة: إن الغالب في المسيار هو الكتمان أو السرية، وهذا يضعف هذا النوع من الزواج، إذ الأصل في الزواج الإعلان، وقد قال علماء المالكية: إذا اشترط على الشهود الكتمان، فالزواج باطل.
ونقول: إن الكتمان والسرية ليست من لوازم زواج المسيار، فبعض هذا الزواج يتمتع بالتسجيل والتوثيق في المحاكم الشرعية والسجلات الرسمية، ويكفي حضور الولي أو إذنه بالزواج، فهذا كاف في تحقيق الحد الأدنى للإعلان.
على أن حرص بعض الناس على كتمان هذا الزواج عن أهليهم أو غيرهم –بعد توافر شروطه– لا يجعله باطلاً عند جمهور العلماء.
وما نقل عن المالكية مخصوص بما إذا أوصى الشهود بالكتمان حين العقد، أما إذا وقع الإيصاء بعده فلا يضره، لأن العقد وقع بوجه صحيح، وكذا إذا دخل بالمرأة وطال مكثه معها عرفاً، فلا يفسخ النكاح بعد ذلك، والمهم عندهم في صحة العقد هو: شهادة رجلين عدلين، غير الولي، بل هم لا يشترطون الشاهدين في العقد إلا من باب الندب والاستحباب للخروج من الخلاف.
يقول العلامة الدردير، في كتابه الشهير “الشرح الصغير”: وندب الإشهاد عند العقد للخروج من الخلاف، إذ كثير من الأئمة لا يرى صحته إلا بالشهود حال العقد، ونحن نرى وقوعه صحيحاً في نفسه، وإن لم تحصل الشهدة حال العقد كالبيع، ولكن لا تتقرر سحته، وتترتب ثمرته من حل التمتع، إلا بحصولها قبل البناء؛ أي الدخول، فجاز أن يعقد فيما بينهما سراً، ثم يخبرا به عدلين، كأن يقولا لهما: قد حصل منا العقد لفلان على فلانة.. إلخ، في حين ذكر الشيخ الدردير هنا: أنه يندب إعلان النكاح، أي إظهاره بين الناس، لإبعاد تهمة الزنى، فجعل الإعلان من باب الندب والاستحباب لا من باب الإلزام والإيجاب.
المهم ألا يشترط عند العقد على الشهود الكتمان.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذي لا ريب فيه: أن النكاح مع الإعلان يصح، وإن لم يشهد شاهدان، وأما مع الكتمان والإشهاد فهذا مما ينظر فيه، وإذا اجتمع الإشهاد والإعلان فهذا الذي لا نزاع في صحته، وإن خلا عن الإشهاد والإعلان، فهذا باطل عند العامة (يعني الجمهور)، فإن قدر فيه خلاف فهو قليل، فانظر كيف وجد الخلاف، حتى فيما فقد الإشهاد فيه والإعلان جميعاً، وهذا لحرص فقهائنا على تصحيح عقود الناس وتعاملاتهم بقدر الإمكان.
وقد سألتني إحدى الأخوات في حلقة “الشريعة والحياة”: هل يجوز للرجل أن يخفي أمر زواجه من أخرى عن زوجته الأولى وهي شريكة حياته، وربة بيته؟
وأقول: إن الرجل في الأعصار الماضية كان يتزوج على امرأته جهاراً من زوجة أخرى وفق ما شرعه الله تعالى، ولا يكتم ذلك عن امرأته، بل كثيراً ما كان يشاورها فيمن يتزوجها، بل عرفت زوجات هن اللاتي خطبن لأزواجهن الزوجة الثانية، ولكن في زماننا تغيرت الحال نتيجة الاختلاط بالغرب، والتأثر بحضارته وثقافته؛ حيث يقبل تعدد الخليلات ويرفض بعنف تعدد الحليلات، ونتيجة القصف الإعلامي الرهيب المتمثل في أجهزة الإعلام كلها؛ مقروءة ومسموعة ومرئية، ولا سيما المرئية حيث تشنع الأفلام والمسلسلات والتمثيليات والمسرحيات على التعدد وتبرزه في أسوأ مظهر.
وقد أثر ذلك على عقول بناتنا ونسائنا أشد التأثير، بما يشبه غسل الأدمغة من مفاهيم الإسلام وقيمه وأحكامه، وأمست المرأة المسلمة ترى الزواج الثاني كأنه جريمة منكرة، بل بعضهن يرينه وكأنه حكم عليها بالإعدام، وقالت بعضهن: لأن يزني أهون عندي من أن يتزوج بأخرى، وشاع المثل القائل: “جنازته ولا جوازته”، ومن هنا رأى بعض الرجال من باب الإشفاق على امرأته الأولى ألا يفجعها بهذا النبأ، ويخفيه عنها ما استطاع، فكتمان ذلك من باب الحرص عليها.
بين الجائز شرعاً واللائق اجتماعياً
وفي الختام، أود أن أنبه على أمر ذي بال، وهو أن الزواج قد يكون جائزاً من الوجهة الشرعية، ولكنه غير مقبول من الناحية الاجتماعية.
فزواج المرأة من سائق سيارتها أو من طباخها مرفوض اجتماعياً ويعرض من ترتكبه لسخرية المجتمع، وينزل من قيمتها عنده، ولكن لا يمكننا من الناحية الشرعية أن نقول: إنه زواج محرم أو باطل.
وكذلك زواج الرجل من خادمته الهندية أو الفلبينية ونحوهما، يرفضه المجتمع ويعتبره غير لائق بمكانته.
أو زواج الشيخ الكبير ابن الستين من صبية في السابعة عشرة من عمرها.
أو زواج امرأة عجوز من شاب في العشرين من عمره.
إلى غير ذلك من ألوان الزواجات غير المتكافئة، والفروق فيها صارخة؛ ولهذا ينكرها المجتمع بقوة، ويشتد النكير على من فعلها، ومع هذا نجدها مستوفية للشروط والمقومات الشرعية، فلا نملك إلا إجازتها شرعاً، على أن اللائق وغير اللائق اجتماعياً يختلف من مجتمع إلى آخر، وفي المجتمع الواحد من عصر إلى آخر.
موقف العلماء
أما موقف العلماء، فقد أشرت في مطلع هذه الكلمة إلى اختلافهم، شأن كل أمر جديد في مضمونه أو في شكله، وإن كنت أرى أن أكثر العلماء يجيزونه ولا يحرمونه.
في أواخر شهر ذي الحجة 1418هـ أواخر شهر أبريل 1998م، انعقدت بالدوحة ندوة “قضايا الزكاة المعاصرة”، وشهدها أكثر من عشرين عالماً من خيرة الأمة وأهل الفقه فيها، وقد أثرنا في إحدى سهراتنا موضوع “زواج المسيار”، وكانت الأغلبية العظمى من المحاضرين مؤيدة لهذا الزواج، ولا ترى به بأساً، وترى فيه حلاً لبعض المشكلات الاجتماعية بطريق حلال، ولم يخالف في ذلك إلا اثنان أو ثلاثة، ومع هذا لم أسمعهم قالوا ببطلان العقد، ولا اعتبروا هذا الزواج كعدمه، وأن من ارتبطوا به قد فعلوا محرماً.
كل ما قالوه: إنهم يخشون أن يكون ذريعة.
ومعنى هذا أنه مباح في الأصل، ولكن إذا خشي من بعض المباحات أن تؤدي إلى ضرر وفساد، فإن منعها مطلوب وجوباً أو استحباباً، حسب مظنة الضرر، قرباً أو بعداً، كبراً أو صغراً.
وهذا كما طلب سيدنا عمر من سيدنا حذيفة أن يطلق المرأة اليهودية أو المجوسية التي تزوجها وهو بالمدائن، فأرسل إليه يقول: أحرام هو يا أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكن أخشى أن يكون ذلك فتنة على نساء المسلمين، وفي رواية: أخشى أن تواقعوا المومسات منهن، يعني ألا تتحروا في توافر شروط الإحصان.
ويقول بعض المعترضين: إذا حللتم بهذا الزواج مشكلة العانس الموسرة، فكيف تفعل العانس الفقيرة التي لا مال لها؟
وأقول لك: إن عجزنا عن حل بعض المشكلات لا يجوز أن يكون عائقاً لنا عن حل مشكلات أخرى نجد لها حلاً، فحل مشكلات البعض أهون من ترك الكل.
فلنحل ما نقدر عليه، ولنسع مجتهدين لحل المشكلات الأخرى، ولكل مجتهد نصيب، وإنما لكل امرئ ما نوى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً {2} وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق).
ويقول قائلون: ولماذا لا نحل المشكلة من جذورها، ونيسّر الزواج الشرعي الكامل، ونزيح العوائق من طريق الحلال المشروع، من غلاء المهور، والإسراف في الهدايا والولائم والتأثيث ورد ذي الدين والخلق لأسباب ما أنزل الله بها من سلطان، إلى ذلك مما عسّر يسْر الله؟
وأقول: هذه يدي في أيدكم لنعمل جميعاً، من أهل الرأي وأهل التنفيذ، وقد صار لي أكثر من ثلاثين سنة، وأنا أنادي بذلك في دروسي وخطبي ومحاضراتي ومقالاتي، في المساجد والإذاعة والتلفزيون والصحف، ولكن التقاليد الراسخة لا تزول بسهولة، على أننا لو حللنا مشكلة العوانس، وهيهات هيهات، فستبقى مشكلة الأرامل والمطلقات.
فإذا وجدن في هذا الزواج حلاً لمشكلتهن مع بعض الرجال الطيبين –ولا تخلو الأرض منهم– وتراضوا بينهم بالمعروف، فلماذا نسد باباً فتحه الشرع بالحلال، لنفتح أبواباً للحرام في عصر تيسرت فيه أسباب الحرام والمغريات به؟ ليكن عملنا هنا الترشيد والتسديد، بدل المنع والتشديد، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.