ودَّعت الأمة الإسلامية علماً من أعلامها الأفذاذ، ونجماً من نجومها الساطعة في سماء العلم، علاَّمة الجزيرة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، الذي كان جبلاً من جبال العلم، وبحراً من بحور الفقه، وإماماً من أئمة الهدى، ولساناً من ألسنة التوحيد، وعماداً من أعمد الدين، وركناً من أركان الأمة، طالما استفاد من علمه المسلمون في الجزيرة والخليج وفي شتى بقاع الأرض عن طريق اللقاء والمشافهة، أو الكتاب والمراسلة، أو الهواتف والإذاعة، أو الكتابة والصحافة، أو الرسائل والكتب، أو الشريط المسموع.
عاش الشيخ عمره المبارك للعلم والدين، يعلم ويدرس، ويجيب ويفتي، وينصح ويدعو، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، مع حكمة بالغة ورفق وبصيرة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع منه من شيء إلا شانه.
كان أكبر هَمّ الشيخ الدعوة إلى التوحيد الخالص، وتصفية العقيدة من الشرك أكبره وأصغره، جلية وخفية، والوقوف في وجه القبوريين، والخرافيين، واتباع ما جاء عن السلف في وصفه الله تعالى مما وصف به نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله، من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، وكان لا يدع فرصة ولا مناسبة إلا أكد فيها هذه المعاني، لا يماليء ولا يجامل.
وكان الشيخ في الفقه حنبلياً، ولكنه لم يكن مقلداً يأخذ القول في مذهبه ولو كان ضعيف الحجة، بل كان رحمه الله يعتمد الدليل ويستند إلى الكتاب والسُّنة، ويعرض عن مذهبه إذا كان الحق مع غيره، لا يخشى لومة لائم، وقد كان فوق أن يلومه أحد، ولذا رأيناه يفتي بآراء شيخ الإسلام ابن تيمية في الطلاق، وإن كان علماء المملكة لا يفتون بها، وإنما يأخذون المعتمد في المذهب.
كان الشيخ يرأس إدارة الفتوى والبحوث والدعوة، ويرأس هيئة كبار العلماء، ويرأس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي، ويرأس المجلس العالمي الأعلى للمساجد، ويرأس مجلس المجمع الفقهي للرابطة، وظل سنين رئيساً للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، فلم يضعه ذلك في برج عاجي أو في صومعة منعزلة، بل ظل بيته مفتوحاً، ومكتبه مفتوحاً، وقلبه مفتوحاً لكل ذي حاجة من أبناء المسلمين؛ مادية أو علمية، لا يغلق بابه في وجه أحد، ولا يضيق صدره بلقاء أحد، ولا يدخر جهده في مساعدة أحد.
لم يكن العلم الغزير وحده الذي ميّز ابن باز، بل ميزه كذلك قوة إيمانه، وغيرته على دينه، واهتمامه بأمر أمته، وتحرقه على مآسي المسلمين، وحسن خلقه في معاملة الناس، ورحمته بالصغير، وتوقيره للكبير، ومعرفته بحق أهل العلم من إخوانه وإن اختلفوا معه.
اتصل حبل الود بيني وبين العلاَّمة ابن باز في مناسبات كثيرة، في مؤتمرات رابطة العالم الإسلامي، وفي المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وكنت عضواً فيه، وكان الشيخ نائباً لرئيسه إذ كان رئيسه هو ولي عهد المملكة الأمير فهد بن عبدالعزيز، حفظه الله، في ذلك الوقت، وفي مجلس المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي الذي أتشرف بعضويته ويرأسه الشيخ، وفي المؤتمرات العلمية والدعوية العالمية التي أقيمت في المملكة؛ مثل المؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة، والمؤتمر العالمي للدعوة والدعاة في المدينة المنورة، ومؤتمر مكافحة المسكرات والمخدرات والتدخين في المدينة المنورة أيضاً.
أبى الشيخ على نفسه ألا يغادر المملكة، وكم دُعي من أقطار وجهات شتى، ولكنه اعتذر، وعندما أقيم المؤتمر العالمي للسُّنة والسيرة في دولة قطر في افتتاح القرن الخامس عشر الهجري وجهنا إليه الدعوة وألححنا عليه، ولكنه قال: إنه كان يود الاستجابة للدعوة، ولكن هذا سيفتح عليه أبواباً لا يستطيع سدها، وأصر على موقفه ونهجه في الاعتذار.
لم أرَ مثل الشيخ ابن باز في وده وحفاوته بإخوانه من أهل العلم، ولا في بره وإكرامه لأبنائه من طلبة العلم، ولا في لطفه ورفقه بطالبي الحاجات من أبناء وطنه، أو أبناء المسلمين عموماً، فقد كان من أحاسن الناس أخلاقاً، الموطئين أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون.
ولقد رأيته في المجمع الفقهي يسمع وينصت إلى الآراء كلها؛ ما يوافقه منها وما يخالفه، ويتلقاها جميعاً باهتمام، ويعلق بأدب جم، ويعارض ما يعارض منها برفق وسماحة دون استعلاء ولا تطاول على أحد، شادياً في العلم أو متناهياً، متأدباً بأدب النبوة، ومتخلقاً بأخلاق القرآن.
لا أعرف أحداً يكره الشيخ ابن باز من أبناء الإسلام، إلا أن يكون مدخولاً في دينه أو مطعوناً في عقيدته، أو ملبوساً عليه، فقد كان الرجل من الصادقين الذين يعلمون فيعملون، ويعملون فيخلصون، ويخلصون فيصدقون، أحسبه كذلك والله حسيبه، ولا أزكيه على الله تعالى.
ليس معنى ذلك أن الشيخ كان معصوماً من الخطأ، فما ادعى ذلك لنفسه، وما ادعاه له أحد من محبيه، ولكن خطأه مغمور في جنب صوابه، وهو مأجور إن شاء الله؛ لأن رأيه جاء بعد تحرٍّ واجتهاد منه، والمعصوم من عصمه الله.
ولقد اختلفتُ مع الشيخ العلاَّمة في بعض المسائل، نتيجة لاختلاف الزوايا التي ينظر منها كل منا، ومدى تأثر كل منا بزمانه ومكانه، إيجاباً وسلباً، ولم أرَ أن هذا الاختلاف غيّر نظرتي إليه، أو نظرته إليَّ، وظللت –والله– أكن له المحبة والتقدير، وأدعو له بطول العمر في خدمة العلم والإسلام، وظل كذلك يعاملني بود وحب كلما التقينا، وكلما لقيه أحد من أبناء قطر حمَّله السلام إليَّ، رحمه الله وأكرم مثواه.
الحديث عن العلاَّمة ابن باز ذو شجون، ومجال القول ذو سعة، ولا نستطيع أن نوفي الشيخ ما يستحقه في هذه العجالة، إنما هي كلمات كتبتها على عجل أودع بها الشيخ الجليل، وفاء لبعض حقه، ومعرفة بقدره، وتقديراً لمكانته، وفضله.
إن موت العلماء الأفذاذ مصيبة كبيرة، فإن الأمة تفقد بفقدهم الدليل الذي يهدي، والنور الذي يضيء الطريق، يقول عليّ رضي الله عنه: إذا مات العالِم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه.
وقال ابن عمر رضي الله عنهما: ما قبض الله عالِماً إلا كان ثغرة في الإسلام لا تسد، يؤكد هذا حديث عبد الله بن عمرو المتفق عليه: “إن الله لا يقبض العلم، ينتزعه انتزاعاً من صدور الناس، ولكنه يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا”.