تمر علينا هذه الأيام ذكرى مرور قرن كامل على ميلاد أحد أساطين الدعوة والبلاغ والفكر الإسلامي المعاصر هو المفكر المجدد الداعية الأديب الشيخ محمد الغزالي رحمه الله.
لذلك رأينا من الأهمية بمكان الوقوف هذه الوقفة بمناسبة هذه الذكرى، خاصة أن حديثنا سوف ينصب حول جانب من سمات مشروع الشيخ الغزالي الفكري وليس حول الشخص نفسه؛ لأن ما يهم واقع الإسلام اليوم بنظرنا هو “عالم الأفكار”، وهذا ليس تهويناً أو انتقاصاً البتة من مكانة “عالم الأشخاص”، فالأشخاص رموز نستمد منهم -إبان حياتهم- القدوة والمثال، كما نفيد من تجاربهم، لكنهم من المؤكد فانون زائلون، أما الأفكار فهي باقية، نراجعها في مظانها من تراثهم الفكري، ونستثمرها متى أردنا في معالجة معضلات واقعنا وأدواء مجتمعاتنا.
أولاً: محمد الغزالي في سطور:
ولد محمد الغزالي السقا يوم 22 سبتمبر 1917م، بقرية صغيرة تسمى “نكلا العنب” التابعة إدارياً لمركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة، شمال غرب جمهورية مصر العربية، وتلقى تعليمه الابتدائي والثانوي في معهد الإسكندرية الديني، وقد نشأ الغزالي في وسط أسرة متدينة بين إخوة سبعة، هو أكبرهم، وكان والده يعلق عليه كل آماله، وآمال الأسرة والقرية، وقد حفظ القرآن الكريم كاملاً في مرحلة الصبا، ثم واصل دراسته في القاهرة وتتلمذ على يد أبرز علماء الأزهر من أمثال الشيخ عبدالعظيم الزرقاني، والشيخ محمود شلتوت، وتخرج سنة 1941م، بعد أن حصل على شهادة العالِمية (العالِمية بكسر اللام تعادل الماجستير فهي درجة قبل الدكتوراه، وقيل: تعادل الدكتوراه)، وفي سنة 1943م عين إماماً وخطيباً في مسجد العتبة الخضراء بالقاهرة، كما عمل مفتشاً عاماً للمساجد، ثم وكيلاً لقسم المساجد بوزارة الأوقاف، ثم مديراً للدعوة والإرشاد، وقد تأثر تأثراً صادقاً بالإمام المجدد الشهيد حسن البنا رحمه الله، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وطرَّس في نعيه وفي ذكراه بعد ذلك أقوى المقالات، ومن يقرأ المقال الذي كتبه في الذكرى الأولى لاستشهاد الأستاذ البنا وهو ضمن كتابه “تأملات في الدين والحياة”، وعنوانه غصن باسق في شجرة الخلود، يدرك يقيناً عمق تأثر الغزالي بأستاذه ومرشده، ومما جاء في هذا المقال:
لقد قتل حسن البنا يوم قتل والعالم كله أهون شيء في ناظريه! ماذا خرقت الرصاصات الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسداً غبَّرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله، وغضَّنت جبينه الرحلات المتلاحقة إلى أقاصي البلاد، رحلات طالما عرفته المنابر فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم إليه ألوفاً ألوفاً في ساحة الإسلام.
لقد عاد القرآن غضاً طرياً على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله، ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت في سفحها أمواج المادية الطاغية، وإلى جانبه طلائع الجيل الجديد الذي أُفعم قلبه حباً للإسلام واستمساكاً به، وعرفت أوروبا البغي أي خطر على بقائها في الشرق إذا بقي هذا الرجل الجليل، فأوحت إلى زبانيتها، فإذا الإخوان في المعتقلات، وإذا إمامهم شهيد مدرج في دمه الزكي.
ولقد مد الله تعالى في أجل الشيخ الغزالي حتى ألَّف ما يربو على ستين كتاباً، إضافة إلى ديوان شعر بعنوان “الحياة الأولى”، وسيرة ذاتية بعنوان “قصة حياة”، وخواطر في ستة أجزاء بعنوان “الحق المر”، كما عمل أستاذاً بجامعة قطر، وأستاذاً بجامعة الأمير عبدالقادر الإسلامية بقسنطينة بالجمهورية الجزائرية، وترأس مجلسها العلمي لمدة خمس سنوات كاملة.
وشاء القدر أن تفيض روحه الطاهرة يوم التاسع من مارس 1996م، وهو يدافع عن الإسلام في ندوة بعنوان “الإسلام والغرب” على منصة المهرجان الوطني للتراث والثقافة بمدينة الرياض العاصمة السعودية، ودفن بناء على وصية سابقة له في المدينة المنورة القريبة من صاحب الرسالة الخاتمة وصحابته الكرام في مقبرة البقيع، بعد أن ترك أعمالاً ومؤلفات جليلة حري بأن تنظر فيها الأجيال المسلمة الصاعدة، وأن تستفيد من مضامينها العامرة بآراء ونظرات واجتهادات وتجارب نحسب أنها مفيدة للكثير من تفاصيل الحياة الإسلامية ولمستقبل الإسلام.