في البدء يمكننا الذهاب في تحديد موقع الشيخ الغزالي الفكري والاجتهادي إلى أنه ينتمي إلى مدرسة الإحياء والتجديد الفكري والحضاري وبعث الإسلام في العالم من جديد مجرداً من الخلافات النظرية والتفسيرات المذهبية والتاريخية، والحرص على جعل الاستفادة التامة من كل تراث الإسلام وعطاءات العقل الإنساني مما هو مشترك إنساني عام، لا خصوصية حضارية، رؤية شاملة تحكم طرق تفكير واجتهاد هذا المنهج.
إن مشروع الغزالي الفكري صارخ في الانحياز التام لهذا المنظور ولهذه المدرسة، وتتجلى معالم هذه الرؤية أو المنهج في أي موضوع يتعرض له الشيخ بالحديث والتحليل والمعالجة، ولنتأمل مثلاً هذه الرؤية التي تعد وتدعم ما ذهبنا إليه، التي يقول فيها: “إن المذاهب الفقهية في الإسلام يكمل بعضها بعضاً ولا يغني أحدها عن الآخر، إنها كلها تمثل الفكر الإسلامي الرحب الذي يجب أن يُدرس ويُبحث، ويخضع للنقد والمقارنة والترجيح والمحو والإثبات، ونحن شديدو الاحترام لأئمتنا الأوائل، عظيمو التقدير لذكائهم الخارق وتقواهم الله ونصحهم للأمة ومقاومتهم للجور، غير أننا نشعر بأن كل واحد منهم يمثل لوناً من التفوق الذهني والمناهج العلمية، وأن الإسلام مجموعة هذه الألوان وغيرها مما يجد على اختلاف الليل والنهار من اجتهاد الفقهاء وتطبيق الكتاب والسُّنة على مختلف الشؤون.
إننا حين نطلب تحكيم الإسلام لا نفكر في إقامة دولة مالكية أو دولة حنبلية، فهذا حمق في التفكير، إن الإسلام الذي نستهدي به هو:
أولاً: الأصول المعصومة من كتاب وسُنة
ثانياً: جهد العقل الإسلامي في مواجهة الأحداث المتباينة في تاريخه الطويل ومدى ما أحرز من توفيق أو عرض له من خطأ، ونحن المسلمين في هذا العصر نواجه الفكر الإنساني القادم من شتى القارات، العارض لأنواع الحضارات المصور لشتى النزعات والفلسفات، فكيف يلقي هذا الفيض الغامر رجلٌ محصورٌ في مذهب فقهي تعصب له؟ أو رجل ينتسب إلى فرقة إسلامية ولد في أحضانها؟ إن على دعاة النهضة الإسلامية المعاصرة أن ينخلعوا من هذه القيود، وأن تكون لديهم إحاطة علمية بما لديهم مهما كان الرأي فيه، وحسن الإدراك لثقافتنا في أصولها وفروعها شيء، وما يميل إليه المرء من رأي أو يؤثره من وجهة نظر شيء آخر، ويؤسفني أن تكون أزمات المعرفة في بلادنا وبين رجالنا بعض الضيق الذي نشعر به في جوانب حياتنا كلها المادية والأدبية، وما يخدم الإسلام بهذه الفاقة ولا بهذا الانحصار([2]).
إن هذا التوجه في الطرح الفكري إنما يشير بقوة إلى أن الغزالي يقف من عطاءات العقل المسلم وإبداعات الفكر الإسلامي -عبر مسارات تاريخه- موقف الناقد الممحص البصير، وأنه ينتقي من شتى الاتجاهات والمدارس والمذاهب ما يخدم حاضر المسلمين وما يعزز مكانتهم في المستقبل، وهو ينظر إلى مختلف المدارس وشتى المناهج على أنها اجتهادات غير معصومة، وإلى الجهود المختلفة التي أنتجتها تلك المدارس والمناهج وأصبحت إرثاً فكرياً وثقافياً وعلمياً هو جزء أساس من النسيج العقلي والنسق المعرفي للعمل المسلم، على أنها رصيد مهم للفكر الإسلامي، بيد أنها ليست ملزمة في جزئياتها التفصيلية ومسائلها الظرفية، وذلك لوجود المتغيرات المتنوعة في حركة الواقع الاجتماعي وصيرورات التاريخ السيالة المتحركة.
وتظل العصمة والقداسة -برأي الغزالي- محصورة في المنابع لا في السواقي، أي أنها خاصة بالنص المطلق المعصوم عن الخطأ المتمثل في الكتاب والسُّنة، كما يظل النص القرآني تحديداً -وفق هذا المنظور- معياراً أبدياً ثابتاً لوزن القيمة الحقيقية للنصوص، والقواعد والمفاهيم الأخرى، أو لوزن مدى صواب أو خطأ الآراء والأفعال والسلوكيات والمنجزات والأعمال البشرية المتسمة دوماً بالنسبية.
وفي نظر الغزالي وفهمه أن ما أبدعه العقل المسلم عبر مسيرته الحضارية والتاريخية من أنساق معرفية ومناهج وتراكمات فكرية وتنظيرية وثقافية ليست مقصودة لذاتها، فهي ليست ترفاً عقلياً أو متعة ذهنية، وإنما كان وجودها أساساً والباعث عليها يتمثل في خدمة الإحاطة والإدراك المنهجي للنص المطلق المعصوم وفهم مقاصده وأبعاده العامة، والعمل من ثم بهديه وبنور الحكمة المستترة داخل سياقاته وضمن تضاعيفه؛ وذلك سر صياغة القرآن لأجيال عظيمة النفع، زكية النفس عالية الهمة صلبة الإرادة، وفي ظرف زمني قصير ومحدود إبان البعثة المباركة وخلال فجر الرسالة الخاتمة؛ لذلك نرى الغزالي ينعى بشدة فهم واجتهاد الحرفيين والنصوصيين للإسلام وتراثه ممن يقدسون القوالب والمناهج التاريخية لبعض جوانب من المعرفة الإسلامية؛ فيفوتهم الانتفاع بالجوهر وبالمقاصد المرتبطة برسالة الإنسان المركزية وغاية وجوده وفي الاستخلاف عن الله وحسن الإصلاح والإعمار في الحياة والكون والتفاعل بالخير والحق مع منظومة معطيات الفطرة الصحيحة السائغة، بل ومع كل ما يوجد في هذا الوجود الكوني الفسيح.
ودلالة ذلك كله –كما يرى الغزالي ويعتقد- أن جوهر النبي صلى الله عليه وسلم وأساس كيانه المعنوي والحياتي برمته إنما هو هذا الكتاب العظيم الذي صنع حضارة العقل السليم، فكيف ننسى هذا كله وننشغل بأمور شكلية هي أقرب إلى القشور، إن قشرة البرتقالة أو قشرة البيضة قد تكون ضرورة لحفظها وبقائها، ولكن ليس معنى هذا أننا نأكل قشر البرتقال أو قشر البيض، فالقشرة هي الشكل ومهمتها أن تصون الجوهر، فإذا انتفعنا كان انتفاعنا بهذا الجوهر قبل كل شيء، أما الذين يعيشون على قشر البرتقال أو قشر البيض ولا ينفذون إلى صميمه فهم قوم جهلة، وأنا أرفض أن يكون زمام الفكر الإنساني والإسلامي في أيدي هؤلاء([3]).
فهذه الرؤية بنظرنا تؤكد انتماء الغزالي الفكري لمدرسة التجديد والإحياء والاستفادة المطلقة والمفتوحة من تراث الإسلام كله ومن الجوانب المضيئة لعطاءات العقل الإنساني، تلك التي تمثل مشتركاً إنسانياً عاماً؛ إذا كان الأمر كذلك، فلن نعدو الصدق والموضوعية إذا قلنا: إن الشيخ الغزالي هو واحد من أعلام هذه المدرسة الفكرية مدرسة الجامعة الإسلامية، مدرسة الإحياء والتجديد الحديثة لفكر الإسلام لتُجدد به حياة المسلمين، إن شيخنا الغزالي هو واحد من علماء هذه المدرسة، وإن موقعه الفكري في الإطار الذي يجمع أعلام هذا التيار، فالرجل يكاد أن يحتضن كل تراث الإسلام، وأن يستدعي من ثمرات إبداع المدارس الفكرية المختلفة كل اللبنات الصالحة للعطاء في مواجهة ما نواجهه من تحديات([4]).
بيد أن هناك ملاحظة ربما لا يجوز إهمالها في هذا المضمار أو السياق، ونقصد بها تميز تفكير الغزالي داخل نطاق الإطار الذي يجمع رموز وأقطاب هذا التيار الفكري، خاصة أن الغزالي قد تقدم به العمر بعد حسن البنا وبعد العديد من أعلام هذا التيار، واستجدت أمور لم تكن مثارة في وقتهم، أو لم يكن بعضها بالصيغة التي أصبح عليها في المرحلة التي عاشها الغزالي في أوج نضجه العقلي وعطائه الفكري، وربما ليس أدل على ذلك من الإشارة لاجتهاده وإضافته لعشر مقررات أو قواعد للتعاليم العشرين التي وضعها أستاذه الإمام حسن البنا لهذه المدرسة الفكرية([5]).
هذه بعض محددات الموقع الفكري الذي ينتمي إليه فكر الغزالي واجتهاده وتنظيره، وهذا هو المنطلق الذي تحرك من قواعده وخلفياته وأسسه، فجاء مشروعه الفكري لبنة عامرة بالحيوية نابضة بالحياة، تبشر بحركية جديدة وبأنساق فاعلة وواعدة وأنماط أخرى محتملة لمستقبل الفكر الإسلامي، تكون قائمة على قواعد منهجية صلبة ومنفتحة على المعرفة وعلى عطاءات العقل الإنساني والخبرة الإنسانية والفطرة الصحيحة، ونحن لا نجدِّف في استنباط وبسط هذه المحددات لموقع الغزالي الفكري، إذ إننا نجد الغزالي نفسه يشير بوضوح إلى هذا الانتماء الفكري وأهم خصائصه وقسماته، وذلك بقوله: “المدرسة التي أعتبر نفسي رائداً فيها أو ممهداً لها تقوم على الاستفادة التامة من جميع الاتجاهات الفكرية والمذاهب الفقهية في التاريخ الإسلامي، كما ترى الاستفادة من كشوف الفلسفة الإنسانية في علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ ومزج هذا كله بالفقه الصحيح للكتاب والسُّنة، إن الرؤية الصحيحة لأحكام الشريعة أو الحكم الصائب الذي ينبغي تقريره لا يتم إلا مع رحابة الأفق ووجود خلفية عظيمة من المعرفة القديمة والحديثة على السواء”([6]).
وليس من شك أن هذه الكلمة لها دلالتها العميقة في حسم التحديد الدقيق لموقع الغزالي الفكري، وهي وإن كانت في توصيفها تنطبق على الخطوط العريضة والمحاور الرئيسة لمشروع الغزالي الفكري، إلا أنها أيضأ –فيما أحسب- تنطوي على إشارة تميز موقع الغزالي الفكري داخل هذا الاتجاه أو الإطار المرن المنسوب للمدرسة التي ذكرنا بعض مميزاتها، وهذه حقيقة لا مراء فيها يقف على معناها الصحيح كل دارس لمشروع الغزالي الفكري، فقد عرف الفكر الإسلامي المعاصر على يد الشيخ الغزالي دفعاً قوياً، انتقل به من مواقع “النخبة” إلى “اهتمامات” معظم المستويات في الأمة، وتجاوز بخلفيته النقدية الواعية المستوعبة مرحلة الأوهام والشعارات والحلول الجاهزة في الخيال، إلى أفق آخر أساسه الأول المعايشة الواقعية لمشكلات الأمة المختلفة، ومواجهة التحديات الكثيرة والمتناقضة التي ما فتئت تحول دون تحقيق الانعتاق الكامل وتجسيد طموحات وأهداف الأمة الإسلامية في الواقع القائم في دنيا الناس فعلاً لا وهماً وحقيقة لا خيالاً.
([1]) العدد (2113)، صفر 1439هـ/ نوفمبر 2017م.
([2]) محمد الغزالي، حصاد الغرور، دار الثقافة، الدوحة، ط 3، 1985م ص 272 – 273.
([3]) محمد الغزالي، مجلة الدعوة السعودية العدد (111) الصادر في 24 رجب 1409هـ، ص 28-29.
([4]) محمد عمارة، الشيخ محمد الغزالي: الموقع الفكري والمعارك الفكرية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط1، 1992م، ص 40-41.
([5]) محمد الغزالي، دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين، دار الكتب، الجزائر، ط1 – 1988م، ص 268 – 269.
([6]) حوار مع الشيخ محمد الغزالي، إعداد دار المختار الإسلامي القاهرة، ط1 – 1996م، ص 58.