تدل كل المؤشرات على أن إنجاز تهويد المسجد الأقصى يعد أحد مكونات إستراتيجية حسم الصراع التي يعكف عليها الكيان الصهيوني تحت تأثير قوى اليمين الديني المشاركة في حكومة «بنيامين نتنياهو»، بتعاون وثيق مع جماعات الهيكل اليهودية التي تجاهر بسعيها إلى تدشين الهيكل المزعوم على أنقاض «الأقصى».
من الواضح أن معيار إنجاز تهويد «الأقصى» في الإستراتيجية الصهيونية يتمثل في تحويله من مكان مقدس للمسلمين إلى مكان مقدس مشترك للمسلمين واليهود، وصولاً إلى جعله مكاناً مقدساً لليهود فقط.
ويمكن الإشارة إلى سلسلة من الإجراءات التي عكفت وتعكف عليها الحكومة الصهيونية في محاولاتها تهويد «الأقصى»، على رأسها التحول الذي طرأ على الموقف الرسمي من السماح لليهود بأداء الصوات التلمودية داخل المسجد؛ فوزير الأمن القومي «إيتمار بن غفير» يجاهر حالياً بدفاعه عن حق اليهود في الصلاة بـ«الأقصى»، بزعم أن عدم السماح لهم بذلك يعد تمييزاً عنصرياً ضدهم، ولم يسبق أن دافع أي مسؤول «إسرائيلي» رسمي في الماضي عن حق اليهود في الصلاة بالمسجد.
واتساقاً مع توجهات «بن غفير»، باتت شرطة الاحتلال تغض الطرف عن أداء اليهود الصلوات التلمودية في «الأقصى»، رغم أن هذا السلوك يتناقض تماماً مع الاتفاق الذي توصل إليه «نتنياهو» وملك الأردن عبدالله الثاني في عام 2015م، الذي التزم فيه الكيان الصهيوني بعدم السماح لليهود بأداء الصلوات في «الأقصى»، مع العلم أن الاتفاق حظر على قادة وعناصر جماعات الهيكل تدنيس المسجد.
في الوقت ذاته، عمدت الحكومة الصهيونية الحالية إلى زيادة عدد اليهود الذين يدنسون «الأقصى» بشكل غير مسبوق؛ حيث إنها باتت تمنحهم إغراءات لتشجيعهم على تدنيسه؛ مثل تدشين صالات انتظار فارهة على مداخل «الأقصى»، كما واصلت الحكومة الحالية سياسات سابقاتها في إلزام المدارس اليهودية بتنظيم رحلات طلابية إلى ما يسمى «متحف الهيكل» في القدس المحتلة، وهو المتحف الذي يشرف عليه الحاخام «يسرائيل أرئيل»، رئيس منظمة «معهد الهيكل»، وهي أكبر منظمات الهيكل، ويتلقى الطلاب اليهود شروحات من موظفي المتحف حول مسوغات إقامة الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى.
خطوات بالغة الخطورة
وقد أقدمت جماعات الهيكل على مجموعة خطوات بالغة الخطورة ترمي إلى تدشين الهيكل في الوجدان اليهودي قبل تدشينه واقعياً على أنقاض «الأقصى»، وضمن هذه الخطوات المحاولات الحثيثة لذبح القرابين داخل المسجد الأقصى خلال عيد الفصح اليهودي، وإعلانها عن مكافآت كبيرة لكل يهودي يتمكن من ذبح القرابين داخل المسجد.
وقد قدمت جماعات الهيكل مؤخراً عروضاً تحاكي تقديم القرابين للهيكل بعد تدشينه على أنقاض مسجد قبة الصخرة تحديداً، في الوقت ذاته، فقد عمدت هذه الجماعات إلى مواصلة تخريج دفعات ممن تطلق عليهم «سدنة الهيكل»، وهم الذين يفترض أن يقوموا على خدمته بعد تدشينه على أنقاض المسجد الأقصى، وتنظم هذه الجماعات سنوياً احتفالات ضخمة احتفاء بالخريجين الجدد من دورات السدنة الذين يشاركون في مسيرات تجوب محيط «الأقصى».
وقد التفتت جماعات الهيكل إلى تنفيذ إجراءات تفصيلية تتعلق بالإعداد لتدشين الهيكل على أنقاض «الأقصى»، تمثلت في إرسال وفود من الحاخامات إلى العاصمة الإيطالية روما بهدف محاولة إقناع الحكومة الإيطالية بمنح هذه الجماعات مقتنيات الهيكل، التي تزعم أن الإمبراطور الروماني «تيتوس» قد غنمها بعد أن دمر الهيكل عام 70م.
لم تقف الأمور عند هذا الحد، بل إن جماعات الهيكل التي تستمد التشجيع من سلوك حكومة «نتنياهو» أعدت خطة تفصيلية تمهد لتهويد «الأقصى»، قدمتها إلى كل من «نتنياهو»، و«بن غفير»، وحسب ما ذكرت صحيفة «يسرائيل هيوم»، فإن هذه الخطة تنص على إعلان وزارة الأديان اليهودية عن «الأقصى» كمكان مقدس لليهود، وتدشين مؤسسة دينية يهودية تعنى بالإشراف على «الأقصى»، مما يعني تصفية وجود دائرة الأوقاف الإسلامية، والسماح لليهود بتدنيس المسجد في كل أيام الأسبوع ومن جميع البوابات.
مجامع فقهية
إلى جانب ذلك، فقد اهتمت جماعات الهيكل بتوسيع حركة «التأصيل الفقهي» التي تهدف إلى تسويغ وتشريع الجهود الهادفة إلى بناء الهيكل عبر تدشين مجاميع فقهية من حاخامات بهدف الإسهام في إصدار الفتاوى التي تحث على تدنيس «الأقصى»، ومد يد العون لجماعات الهيكل لإنجاز مشروعها المتمثل في بناء الهيكل على أنقاض المسجد.
ولم يكن من سبيل الصدفة أن بعض الحاخامات الذين أسهموا بالفعل في إصدار الفتاوى التي تحث على تدنيس «الأقصى» هم تحديداً من المرتبطين بالحركات الدينية المشاركة في الائتلاف الحاكم، وتحديداً حركة «المنعة اليهودية» التي يقودها «بن غفير»، وحركة «الصهيونية الدينية» التي يقودها وزير المالية «بتسلال سموتريتش».
وقد أقدم وزراء ونواب ينتمون إلى الائتلاف الحاكم الذي يقوده «نتنياهو» على خطوات تعكس تبنيهم الأجندة التي ترفعها جماعات الهيكل، فقد سبق لـ«سموتريتش» أن نشر صورة على حسابه بـ«تويتر» وهو يقود سيارته وقد وضع جدياً أمامه، في إشارة إلى القرابين التي تحاول جماعات الهيكل ذبحها داخل «الأقصى»، ولم يتردد «سيمحا روطمان»، النائب عن حركة «الصهيونية الدينية» في النفخ في البوق داخل المقبرة الإسلامية المتاخمة للمسجد الأقصى في خطوة تشي بدعم مخططات التهويد.
وقد تبين أن جماعات الهيكل المتطرفة تتلقى دعماً مالياً وسياسياً من الجماعات المسيحية الإنجيلية في جميع أرجاء العالم وتحديداً في الولايات المتحدة، حيث إن هذه الجماعات تجمع التبرعات لجماعات الهيكل.
وحسب تحقيق بثته قناة «12» الصهيونية، فإن وزارة الخزانة الأمريكية تعفي التبرعات التي تقدمها الجماعات الإنجيلية لجماعات الهيكل من الضرائب؛ مما يمثل في الواقع إسهاماً أمريكياً رسمياً في دعم هذه الجماعات وأجندتها المجنونة، بشكل يتناقض مع مزاعم واشنطن أنها تقف ضد التطرف.
ونظراً لإدراك الحكومة الصهيونية أن إنجاح مخطط تهويد «الأقصى» يتوقف على المس بقدرة الفلسطينيين على مقاومة هذا المخطط، فقد عمدت إلى محاولة قهر الوجود الإسلامي داخل المسجد من خلال عمليات القمع الوحشية التي استهدفت المصلين والمعتكفين، وعبر إصدار أوامر الاعتقال والإبعاد ضد كل الرموز التي تتبنى قضية «الأقصى» وتدافع عنه.
ومما لا شك فيه أن أخطر الخطوات التي نفذتها حكومة «نتنياهو» السابقة تمثلت في قرارها إخراج الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح عن دائرة القانون، مع العلم أن هذه الحركة مارست وتمارس دوراً رئيساً في الدفاع عن «الأقصى» وإبراز قضيته والتحشيد من أجل الدفاع عنه.