من كتاب «مع الناس» موضوع «السن المناسبة للزواج» (صفحة 71) للفقيه والأديب والداعية الراحل الشيخ علي الطنطاوي، نشر عام 1958، وكأنه يحكي عن زماننا هذا، ويشخّص الداء والدواء في مشكلة الزواج.
نص المقال:
في البلد اليوم مشكلة من أعقد المشكلات الاجتماعية وأعمقها أثراً في حياة الأمة؛ هي مشكلة الزواج، وتتلخص هذه المشكلة في كلمة واحدة هي أن فينا آلافاً مؤلفة من البنات في سن الزواج لا يجدن الخاطب، وآلافاً مؤلفة من الشباب لا يجدون البنات، أو لا يريدون الزواج.
ولتدركوا خطر هذه المشكلة وامتدادها، خذوا ورقة وقلماً واكتبوا أسماء الأسر التي تشتمل على البنات الكاسدات، والأسر التي تشتمل على الشباب العزّاب، تروا أن في محيط كل واحد منكم -أيها السامعون- عشرات من هؤلاء ومن أولئك.
وبحثي اليوم في أسباب هذه المشكلة ونتائجها وفي طرق حلها.
أما نتائجها فهذا الفساد الأخلاقي الذي يشكو منه كل بلد من بلدان هذا الشرق الإسلامي. وأنا لا أستطيع أن أصرّح لأني لا أتحدّث إلى جماعة أراهم أمامي أعرف أذواقهم وميولهم، ولا أتكلم في مجلس محصور، ولكن أتكلم في هذا المذياع الذي يحمل الكلام إلى آفاق الأرض، ولا أدري مَن يستمع إليّ، ولعل فيهم البنت والشاب ومَن لا يحسن التصريح أمامه بهذه الأشياء؛ لذلك أكتفي بأن أقول: إن الله ما حرّم شيئاً إلا أحلّ مكانه شيئاً يغني عنه: حرّم الربا وأحلّ البيع، وحرّم الزنا وأحلّ الزواج، فمن سُدّ في وجهه طريق الحلال لم يجد للوصول إلى هذه الحاجة الطبيعية إلا سلوك طريق الحرام؛ لذلك كانت النتيجة الحتمية لقلة الزواج هي كثرة الفساد، ولعلي أتحدث عن الفساد الخلقي حديثاً مستقلاً مفصلاً، وأقرر من الآن أنه لا يمكن القضاء على هذا الفساد إلا بتسهيل الزواج.
أما أسباب مشكلة الزواج:
أولها: نظام التعليم:
إن هذا النظام يعارض فطرة الله ويخالف طبائع النفوس وحقائق الأشياء، وبيان ذلك أن الله وضع غريزة الجنس في نفس الشاب والشابة وقدّر لظهورها سن الخامسة عشرة أو نحوها، فإذا بلغها الولد أو البنت تنبه في نفسه ما كان غافلاً وتيقظ ما كان نائماً، ونظام التعليم يوجب أن يبقى الشاب والشابة في المدارس إلى الخامسة والعشرين؛ يدخل المدرسة ابن سبع سنين، ويبقى اثنتي عشرة سنة في الابتدائية والثانوية فهذه تسع عشرة سنة، ويبقى في الجامعة من أربع سنين إلى سبع سنين، فيصير عمره من ثلاث وعشرين إلى ست وعشرين سنة، فإذا ذهب بعد ذلك ليجيء بالدكتوراة من أوروبا أو أميركا وغاب لذلك ثلاث سنين أخرى على الأقل صار ابن ثلاثين سنة أو نحوها.
فكيف يمضي هذه السنوات العشر أو الخمس عشرة التي هي أشد سني العمر ثورة وشهوة وضراماً في الأعصاب، لا سيما وهو يعيش في جو مملوء بالمغريات الجنسية، وإذا سافر إلى بلاد الغرب رأى ما هو أشد إغراء؟
وليس البحث الآن في المسألة الجنسية لأسأل ماذا يصنع في هذه المدة، بل البحث في الزواج، فكيف يمكن أن يتزوج؟ لا سيما وأنه مضطر -بحكم هذا النظام- أن يبقى بلا كسب ولا مورد، ويبقى عالة على أبيه حتى يبلغ الثلاثين، ويبقى بعد ذلك بضع سنين أخرى بطبيعة الحال كي يجمع تكاليف الزواج، فيصير عمره خمساً وثلاثين، ومن المشاهَد أن كثيراً من الذين يبقون بلا زواج إلى هذه السن لا يتزوجون أبداً، لأن الدافع إلى الزواج يضعف بعدها ونار الغريزة تخمد، والشباب يكون قد ولى.
فالسبب الأول -في رأيي- هو نظام التعليم، وقد كان من المعروف في دمشق من نصف قرن، لمّا كان أكثر الناس يشتغلون بالتجارة ولا يعرفون هذا التعليم الجامعي، أن الشاب إذا صار في العشرين صارت له دكان، وصار صاحب مورد ورب تجارة، وصار زوجاً وأباً وصاحب أسرة، وأن البنت إذا بلغت الرابعة عشرة تتزوج.
والسبب الثاني: هذه العادات الشنيعة في الزواج:
العادات التي تخرّب بيت الأب وبيت الخاطب معاً، وليس فيها -كما قلت في الحديث الماضي- نفع لأحد، إنما هي للتفاخر أمام الناس وللتكاثر والتسابق إلى التبذير والسرف، من المباراة في زيادة المهور وشراء الجهاز الفخم الذي يشتمل على أشياء أكثره لا حاجة إليه ولا لزوم له، ولقد دخلت غرفاً في أفخم الدور كُدِّست فيها التحف والتماثيل والمطرّزات واللوحات بلا ذوق ولا ترتيب، حتى صارت كأنها مخزن مفروشات لا غرفة استقبال، مع أن الأجانب الذين نقلدهم في حياتنا لا يضعون في أبهاء الاستقبال إلا الشيء الضروري، وإذا عمدوا إلى الزينة والترف علقوا لوحة لها قيمة فنية وأقاموا تحفة واحدة أثرية أو تذكارية، لا ترى لديهم إطاراً ضخماً غالياً فيه صورة سخيفة حمقاء، ولا ترى هذه المجموعات من الأطباق الصينية وعلب الزينة وقنانيّ الطيب التي لا تُفتح ولا تُستعمل، وهم يفضّلون الأناقة والذوق على الثمن المادي للأشياء.
وهذه السلسلة من الحفلات، حفلة الخطبة ولبس الخاتم، وحفلة العقد، وربما سبقتها حفلة التلبيسة، وحفلة العرس، والسبعة الأيام وحفلة التعارف.. وكل حفلة تكلف المئات وتجمع أنماطاً من الناس ليس بينهم تفاهم ولا توادّ، وربما لم يكن بينهم تعارف سابق، وهذه الحفلات للرجال ضجة وصخب وفوضى أو صمت وتكلف وحديث خافت، وللنساء حفلات عرض أزياء، كل واحدة تعرض ثوبها وتنتقد ملابس الأخريات!
وهذه الحفلات مع ما يتبعها من الهدايا المقررة المتعارف عليها، التي يتفق أحياناً على نوعها وثمنها، تكلف الخاطب أكثر من المهر، وتكلف الأب هي والجهاز مثل ما تكلف الخاطب، وتكون نكبة على كل رجل تدعى زوجته أو ابنته إليها لأنه يضطر إلى شراء الملابس الجديدة ودفع ثمنها مما خصصه لخبز عياله أو ثمن ملابس أولاده.
ولما كنت في جزيرة جاوة (في إندونيسيا) رأيت أكثر الشباب متزوجين، فسألت عن طريقة الزواج، فإذا هي أسهل وأقرب الطرق، فكنت أتذكّر صعوبة الزواج في بلادنا وهذه العراقيل التي أقيمت في طريقه، حتى صار الاتصال المحرَّم أسهل بمائة مرة من الزواج الحلال (أقول هذا وأنا في خجل وأسف) وصار الآباء يتغافلون عن هذا المنكر ويمهّدون له -حيث لا يشعرون- بإهمالهم التربية الدينية والخلقية، ويعارضون الزواج ويلقون أمام طالبه الأشواك.
الثالث: أن أكثر الأزواج تركوا الشرع ولم يقفوا عند حدوده:
فلم يعرف الزوج الواجب عليه لزوجته ولم يقم به، ولم تعرف الواجب عليها لزوجها ولم تقم به، فدخل -بذلك- الخلاف إلى أكثر البيوت، وصارت حياة المتزوجين جحيماً لا يطاق، وتتالت الدعاوى في المحاكم وفشا الطلاق، ورأى هذا الشبابُ العزاب وسمعوا أخباره فزادهم ذلك كراهة للزواج وانصرافاً عنه.
الرابع: الفساد الخلقي:
والفساد الخلقي الذي هو نتيجة لقلة الزواج صار سبباً من أسباب هذه القلة، وصارت مسألة الدور الذي أبطله المناطقة وجوّزه الشعراء، فقال أحدهم:
مسألةُ الدَّوْر أتَتْ بَيني وبين مَنْ أُحِبْ
لولا مشيبي ما جَفا لولا جَفاهُ لم أَشِبْ
الشاب الذي لا يتزوج وهو يجد الدافع إلى الزواج يسلك طريق الفساد، وسهولةُ طريق الفساد تصرفه عن الزواج، وما له وللزواج ونفقاته ومشكلاته؟ وما له وللخلافات الزوجية وهو يقدر أن يوصل نفسه إلى كل ما تشتهيه بغير ذلك كله؟ وهنا أعود فأقرر أن بين مشكلة الزواج ومشكلة البغاء السري والعلني وحدة وامتزاجاً، فلا يمكن علاج إحداهما إلا بعلاج الأخرى.
الخامس: هو نتيجة التعريف الذي بدأتُ به هذا الحديث:
أما قلت لكم إن مشكلة الزواج هي وجود آلاف مؤلفة من البنات بلا أزواج ووجود آلاف مؤلفة من الشباب بلا زوجات؟
إن الشباب مختلفون غِنى وفقراً، وثقافة وجهلاً، وتُقى وتساهلاً، وجِدّاً وهَزلاً، وفي كل صنف من هؤلاء مثيله من البنات، ولو أن كل شاب يريد الزواج خطب مَن تُماثله في تفكيره ووضعه الاجتماعي ونظره إلى الحياة لما كان عشر هذا الاختلاف الزوجي الذي نراه الآن، ولا يحتاج ذلك إلا إلى جماعة من المصلحين يدعون إلى الزواج ويرغّبون فيه، ثم يدلون كل خاطب على الأسرة التي تناسبه، ولو وُجد في كل حيّ من أحياء البلد نفرٌ من هؤلاء المصلحين لحل بعض هذه المشكلة.
والخلاصة أن في البلد مشكلة زواج، وأن هذه المشكلة مرتبطة بمشكلة الفساد والأخلاق، ولا تُحَلّ إحداهما إلا بحل الأخرى، وأن سببها نظام التعليم أولاً، ثم هذه العادات في المهور والحفلات والهدايا، وهذه التكاليف التي لا تُحتمل، ثم ترك المتزوجين أحكام الشرع حتى حل الخصام فيهم محل الوئام، ثم فَقْد الوسطاء واختيار الخاطب الفتاة التي لا تناسبه ولا تقاربه، وتفضيله الجمال فيها على الكمال، وتفضيله على الدين فيها المالَ وعلى الخلق والحشمة الإغراءَ والدلال.