أما د. يوسف القرضاوي، فقد أثنى على اعتزاز المسلمين بدينهم كمصدر لهويتهم، وعدم الذوبان في المجتمعات الغربية، وإقامة المؤسسات؛ مثل: المعهد الأوروبي للدراسات الإنسانية، والمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وأكد أهمية توفر فقه يعبر عن واقع المسلمين حسب الزمان والمكان والعرف، لذلك دعا إلى مراعاة حال المستفتي وتبني منهج التيسير في الفتوى والتبشير في الدعوة، بخاصة في زمن كثرت فيه المغريات، والإفتاء بالأيسر قبل الأحوط اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم أجاب د. القرضاوي عن أسئلة الحاضرين، حيث أجاز إقامة المسلمين في بلد غير مسلم، وفي التجنس (الحصول على جنسية البلد)، مستثنياً من يريد الإقامة لمجرد جمع المال دون البحث عن ربط علاقة مع إخوانه المسلمين، فاعتبر هذا الأمر من أكبر المحرمات، ودعا إلى الالتزام بنظام المجتمع الغربي وقوانينه، وعدم التفريط في حق الانتخاب الذي وصفه بالشهادة؛ (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ) (البقرة: 283)، وتوظيف القوة الانتخابية، وفيما يتعلق بالعبادات دعا د. القرضاوي إلى رفع الحرج عن المسلمين؛ فأجاز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء للضرورة، ولمن يجد حرجاً في التقيد بمواقيت الصلاة بخاصة في الصيف أو في الشتاء.
كما أجاز إقامة صلاة الجمعة قبل الزوال حسب المذهب الحنبلي قياساً على صلاة العيد، وذلك لمن يتعذر عليه إقامة الجمعة في وقتها، كما أجاز انتخاب إمام الصلاة والجمعة إذا كان هذا الأمر يساعد على موافقة المأمومين ورضاهم بالإمام، معللاً ذلك بأن الإمامة الصغرى هي رمز الإمامة الكبرى، أي القيادة السياسية، كما أقر زكاة الرواتب العالية، وبالنسبة للحجاب، ارتأى د. القرضاوي أن الفتاة أو المرأة المسلمة أو وليّها يراعون المصلحة في الإبقاء على الحجاب أو نزعه في بعض الحالات الاضطرارية، ولم ينصح د. القرضاوي المرأة المسلمة بوضع النقاب في بلاد الغرب؛ لأن هذا الأمر لا يخدم الدعوة الإسلامية.
ونهى عن إقامة فاصل أو حاجز بين النساء والرجال في الصلاة، أو فصل النساء تماماً عن الإمام، واعتبر أن الصوت لا يكفي وحده لإيجاد هذه العلاقة، بل لا بد أن تشاهد النساء حركة الصلاة من خلال حركات صفوف الرجال أمام النساء.
أما عن بيع المحرمات، فقد أجاز في حدود الاضطرار القصوى في حكم القانون القائم، وأما الاستثمار في شركات تتعامل بالربا فقد فرق بين الشركات التي يكون أصل العمل فيها حرام كالخمر والسجائر، وتتعامل بالحرام (الربا)، فحكمها التحريم القطعي، أما الشركات التي يكون أصل العمل فيها حلالاً (أسمنت، ماء) فأكثر العلماء على التحريم، في حين أجاز بعض العلماء ذلك مع إخراج الجزء الحرام المتعلق بالربا.
أما فيما يتعلق بطريقة التعامل مع الفوائد البنكية “الربوية”، فقد شدد د. القرضاوي على معارضته لإتلاف هذه الفوائد أو تركها للبنك، ورأى أن من المصلحة أخذها وتوزيعها على الفقراء ليس بمعنى الصدقة، وإنما بمعنى الاستفادة من المال العام؛ لأن الحرام يتعلق بالفرد المعني المتعامل مع البنك وليس بالآخرين، بل إنه ذهب إلى جواز استعمال هذا المال في بناء المساجد، وطبع المصاحف، ويرى أن ثواب من يقوم بذلك مضاعف؛ لأنه تعفف عن الحرام ولم يستعمله لنفسه، ثم لأنه وسيط خير فحقق بهذا المال مصلحة للمسلمين ولكن ليس له ثواب الصدقة.
ثم أجاب عن سؤال مطروح بحدة على كثير من المسلمين في الغرب بخاصة على رؤساء الجمعيات والمسؤولين الذين يدعون لحضور بعض المناسبات التي توزع فيها الخمور فيضطر المرء إلى الجلوس في طاولة يشرب بعض جالسيها الخمر، وتقتضي مصلحة الدعوة الإسلامية ألا يتغيب الإنسان عن حضور هذه الدعوات حتى لا يظهر المسلمون بمظهر العزلة عن المجتمع؛ ويرى د. القرضاوي أن الأصل في الأشياء أن يحترم الداعون إلى مثل هذه المناسبات خصوصية المسلمين؛ فيجنبوهم كل المحرمات المعروفة في دينهم، لكن إن تعسر ذلك فإن الحاجة تبيح مثل هذه المحرمات، وصنف هذا النوع من المحرمات “الجلوس على طاولة الخمر” بالمحرمات لا لذاتها وإنما لسد الذريعة، ففي حين هناك محرمات تباح للضرورة مثل أكل لحم الخنزير والدم عند الخوف على النفس من الهلاك، ومحرمات أخرى محرمة تحريماً باتاً مهما كانت الظروف مثل الزواج من المحارم.
وبخصوص التعامل مع الجماعات والمنظمات المختلفة، كرر د. القرضاوي أهمية استيعاب فقه الاختلاف مثله مثل فقه الأولويات والتوازنات والفقه الحضاري، باعتبار أن الاختلاف ضرورة بشرية كونية، والخلاف طبيعي، ولكن المشكلة في عدم مراعاة آداب الخلاف؛ مثل تكفير الآخرين وبخاصة العلماء والدعاة، من هنا دعا د. القرضاوي إلى ضرورة التفقه في الدين الذي يتجاوز مرحلة العلم بالدين، والتعب في طلب العلم الديني، وغيره، عن طريق الكتاب والشريط السمعي والبصري والقنوات الفضائية، كما دعا إلى علم مشفوع بالعمل واتقاء المنافق العليم ودعوة المسلمين أولاً ثم غير المسلمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
العدد (1261)، ص46-48 – 1 ربيع الآخر 1418ه – 5/8/1997م.