الكاتب الكبير أحمد أمين
إذا صحوت من نومك، غسلت وجهك وأفطرت، وإني لأتمنى أن يكون لكل إنسان فطور روحي يهتم بالمحافظة عليه قدر اهتمامه بالفطور المَعِدِيّ؛ فليست الروح أقل شأناً من المعدة، فلماذا نحافظ على مطالب المعدة، ونحفل بها، ولا نحفل بمطالب الروح؟!
إن إفطارك كل يوم يزيد جسمك قوة، وإفطارك الروحي يزيدك قوة وسعادة، ونجاحك في الحياة اليومية وسعادتك فيها يتوقفان على هذا الغذاء الروحي؛ لأن السعادة تعتمد على إرادتك، وموقف عقلك أكثر مما تعتمد على الحوادث نفسها؛ فيجب أن نعدِّل أنفسنا حسب الأحداث التي تحدث كل يوم؛ لنبعد عنا الشقاء.
وإن إرادتي تستطيع أن تبعد التسممات التي تسممها الأفكار للعقل، والإرادة هي التي تستطيع أيضاً أن تضع حدَّاً للخوف، ولهياج الأعصاب اللذين يضايقان الإنسان.
والإرادة هي التي تستطيع أن تقف الغضب، وتضع حداً للكبر، والإرادة هي التي تلطف السلوك مع الذين تعاملهم، وتقضي على الخلافات التي بينك وبين عملائك؛ فإذا الذين بينك وبينهم صداقة حميمة.
وروحُك القوية التي تغذيها دائماً بالسوائل الروحية هي التي تمنعك من غش الناس وخداعهم، وروحك الصحيحة هي التي تتناغم مع معاملات الناس؛ فتُسْعِدُهم وتسعد نفسك، وهي التي تجعل حياتك مع أسرتك وجيرانك وعملائك ناعمة لطيفة، كأنها الماكينة المزيتة، وبدونها تكون ماكينة جعجاعة؛ لأنها من غير زيت.
ومن هذا الغذاء الروحي صرفُك كل يوم نحو نصف ساعة في آخر اليوم وتحاسب فيه نفسك ماذا صنعت، وكيف تتجنب الأغلاط التي كانت؟
إن كثيرين مغمورون إما بالعمل المتواصل في جمع العلم أو جمع المال، ولكنهم مع ذلك عبيد مطامعهم، وخير من ذلك كله أن يتفرغوا بعض الوقت إلى أنفسهم؛ فذلك يضمن لهم سعادة أكثر من عملهم ومالهم.
إن سكون الإنسان إلى نفسه غذاء روحي خير من العمل المتواصل، وخير من جمع المال.
وهذا الغذاءُ الروحيُّ إذا تغذيته صباح مساء حملك على أن تعفو عن المسيء وأن تنظر إلى إساءته كأنها نتيجة طبيعية لبيئته وحالته، وتقدر أنك لو كنت مكانه لك مزاجه ولك بيئته لفعلت فعلته.
والغذاء الروحي يخفف من مطامعك، ويجعلك ترضى عما حدث في يومك في مأكلك ومشربك وعملك وما قابلت من أناس، ويجعلك تختم يومك عند محاسبتها بأنه كان يوماً سعيداً يضاف إلى حلقة الحياة السعيدة.
ويخطئ من ظن أن المال وحده يسبب السعادة؛ فإن كان المال عاملاً من عوامل السعادة يساوي 10%، فالحالة النفسية تسبب من السعادة الـ90% الباقية، وكم من الناس نراهم يجدون(1) وراء الربح وقد بلغوا منه مبلغاً عظيماً، ومع ذلك هم أشقياء بروحهم ونفسهم!
ويحكون أن سليمان عليه السلام أوتيت له كنوز الأرض، وبنيت له قصور فخمة، ومع ذلك كتب يقول: «إن هذا كله عبث ولا قيمة إلا لسعادة الروح».
وربما كان قلب الطفل أسعد حالاً من كثير من الناس؛ فإنه يبتهج لطلوع الشمس، ويبتهج للعبه الصغيرة يلعبها، ويبتهج للألعاب الرياضية، ويعجب من الطير تطير في السماء، ويفرح للمناظر الطبيعية الجميلة: من منظر بحر، ومنظر جبل، فإذا نحن كبرنا فقدنا هذه العواطف الجميلة، وجفَّت نفوسنا لعدم غذائها، وإذا حضرتنا الوفاة تبين لنا أننا كنا نعيش في أوهام.
ولا شيء يغذي الروح أحسن من الحب بمعناه الواسع، فحب الخير للناس، وحب المناظر الجميلة، وحب إسعاد الناس ما أمكن، كل هذا غذاء.
إن بعض الناس منحوا من الملكات ما يجدون معه في كل شيء غذاء لروحهم، في الزهر ونضرته، والماء وجريانه، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها.
وبعض الناس يرى أن هذا خيال فاسد لا يهمهم إلا المال وجمعه، أو الشهوات وإرواؤها، أولئك قد عميت قلوبهم، كما عميت في بعض الناس أبصارهم.
إن الحياة الروحية تجعل لكل شيء طعماً جديداً غير طعمه المادي، فتجعل للعلم طعماً، وللمناظر طعماً، وللعواطف طعماً، لا يدركه إلا من ذاقه.
وهو بهذا الطعم يجد في الوحدة أحياناً لذة قد لا تقل عن لذة الاجتماع بالناس؛ لأن نفسه الروحانية ليست فارغة فراغ النفس المادية.
ومن الأسف أن العالم اليوم قد كسب كثيراً بمخترعاته وصناعاته، ولكنه أيضاً خسر كثيراً في روحانيته ومعنوياته، ولو رقى قليلاً في روحانيته ما كان هذا الصراع العنيف بين الأمم، ولا كانت حروب قاسية، ولا قنابل ذرية غاشمة.
إن العالم لا يصح إلا إذا تعادلت فيه يدُه وقلبُه وعقلُه، فإذا اختل توازنه فيها زاد شقاؤه، وهو اليوم صَنَاعُ اليدين، قوي العقل، ضعيف القلب، وهذا ما سبَّب شقاءه، وليس له علاج إلا أن يبحث عن منهج تتعادل به هذه القوى الثلاث، ثم يسير عليه.
___________________________