د. سعيد الحاج
تكتسب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في تركيا أهمية كبيرة، وتوصف بالمصيرية، بالنظر لحالة الاستقطاب والتنافس الشديدة وخريطة التحالفات القائمة، وكذلك الوعود المبذولة من قبل المتنافسين، بما يجعل نتائجها مؤثرة في مسار تركيا ومصيرها لسنوات طويلة قادمة.
تنتظم الأحزاب المشاركة في الانتخابات في 5 تحالفات رئيسة، هي: الجمهور، والأمة/الشعب، والعمل والحرية، و«أتا» أو الأجداد، واتحاد القوى الاشتراكية.
ويضم تحالف الجمهور أحزاب العدالة والتنمية (الحاكم، يمين وسط)، والحركة القومية (قومي تركي)، والاتحاد الكبير (قومي – محافظ)، والرفاه مجدداً (إسلامي)، والدعوة الحرة (كردي محافظ)، واليسار الديمقراطي (يساري).
ويضم تحالف الأمة (الطاولة السداسية) أحزاب الشعب الجمهوري (كمالي – يساري)، والجيد (قومي تركي)، والسعادة (إسلامي)، والمستقبل (محافظ)، والديمقراطية والتقدم (محافظ – ليبرالي)، والديمقراطي (ليبرالي – يمين وسط)، مع الإشارة إلى أن حزبَيْ المستقبل والديمقراطية والتقدم منشقان عن العدالة والتنمية بقيادة كل من الرئيس الأسبق للعدالة والتنمية والحكومة «أحمد داود أوغلو»، ووزير الاقتصاد الأسبق في حكومات العدالة والتنمية «علي باباجان»، على التوالي.
ويضم تحالف العمل والحرية عدداً من الأحزاب اليسارية والكردية، أكبرها الشعوب الديمقراطي (كردي يساري) مع عدة أحزاب هامشية، ويضم تحالف «أتا» أحزاباً يمينية أكبرها حزب النصر المعادي للاجئين، أما تحالف اتحاد القوى الاشتراكية فيضم عدة أحزاب اشتراكية ويسارية ضعيفة الحضور في الساحة السياسية، ويبقى خارج منظومة التحالفات بعض الأحزاب الصغيرة، أهمها حزب البلد المنشق عن الشعب الجمهوري بقيادة المرشح الرئاسي «محرم إينجة».
وألقت هذه التحالفات بظلالها على الانتخابات الرئاسية بشكل ملحوظ، فالمرشحون الأربعة للانتخابات الرئاسية هم نتاج هذه المنظومة إلى حد كبير، حيث سيتنافس في الانتخابات الرئاسية المقبلة الرئيس الحالي «رجب طيب أردوغان»، رئيس حزب العدالة والتنمية، عن تحالف الجمهور، و«كمال كليجدار أوغلو»، رئيس حزب الشعب الجمهوري، عن تحالف الأمة، و«سينان أوغان» (غير منتمٍ لأي من الأحزاب حالياً) عن تحالف «أتا»، و«محرم إينجة»، رئيس حزب البلد عن حزبه، في المقابل؛ لم يقدم حزب الشعوب الديمقراطي مرشحاً خاصاً به، بما فهم أنه دعم ضمني لـ«كليجدار أوغلو».
عناصر القوة والضعف
تدور المنافسة الأشد في الانتخابات المقبلة بين تحالف الجمهور ومرشحه الرئيس التركي، وتحالف الأمة ومرشحه زعيم المعارضة، ولكل منهما عناصر قوة وضعف ستكون مؤثرة في النتائج.
أكبر عناصر قوة التحالف الحاكم وأهمها هو إنجازاته على مدى أكثر من 20 عاماً في الحكم، في مختلف المجالات الاقتصادية والعمرانية والقانونية والسياسية الداخلية والخارجية، فضلاً عن سجله في الانتصارات؛ حيث حلَّ أولاً في كل المنافسات الانتخابية الـ16 التي خاضها منذ تأسيسه.
ويضاف له عنصر الخبرة، إذ العدالة والتنمية بقيادة «أردوغان» يحكم بشكل مستمر منذ عقدين من الزمان؛ ما يمنحه خبرة غير مسبوقة في مختلف القطاعات، ولذلك كان ملاحظاً أن يقدم الرئيس التركي نفسه عنواناً لمعالجة آثار الزلزال المدمر الذي ضرب جنوب البلاد مستخدماً خبرة الحكومة في إعادة الإعمار في الزلازل السابقة.
وهناك قوة مرشحه، فـ«أردوغان» سياسي متمرس ومخضرم وصاحب شخصية قوية وكاريزما عالية، ويضاف لذلك درجة الانضباط المرتفعة داخل حزبه بسبب الإجماع على قيادته، كما أن هذه الكاريزما والمهارات القيادية الأخرى مثل الخطابة والتواصل الجماهيري وغيرها ستفيده في الحملة الانتخابية.
وأخيراً، فإن العدالة والتنمية يقدم نفسه كضمانة لاستمرار الاستقرار في البلاد، محذراً من فوضى محتملة وتراجع في مكتسبات البلاد وانقطاع في مشاريعها الصناعية على وجه التحديد في حال فوز المعارضة.
وأما عناصر الضعف في التحالف الحاكم فيتمثل أولها في طول مدى الحكم وما يترتب عليه، فهناك شرائح من المجتمع ولا سيما الشباب يريدون التغيير لأسباب متنوعة، بعضها متعلق بهم وبعضها الآخر متعلق بالحزب الحاكم، كما أن الفترة الطويلة في الحكم تفقد الماكينة التنظيمية للأحزاب حماستها وفاعليتها، ومع الوقت تتراجع قيم التضحية والزهد وبذل الوقت والفكر والجهد لصالح المناصب والمصالح في دولة كبيرة كتركيا، فضلاً عن الترهل والفساد في بعض المواطن.
وثانيها تراجع شعبية أكبر حزبين في التحالف؛ أي العدالة والتنمية والحركة القومية (وفق المعطيات الحالية)، بسبب فترة الحكم الطويلة وما نتج عنها وانشقاق أحزاب جديدة عنهما.
والثالث أن التحالف من لون واحد تقريباً؛ إذ يتشكل من أحزاب يمينية، محافظة وقومية، بما يجعل وصوله لشرائح أخرى أصعب من المعارضة، ولذلك فقد حرص العدالة والتنمية على الحصول على دعم حزبَيْ الدعوة الحرة (الكردي)، واليسار الديمقراطي (يساري) لترشح «أردوغان».
كما أن صياغة أحزاب التحالف لقوائم مرشحيها للبرلمان بشكل منفرد فيها مخاطرة كبيرة، إذ ستؤدي لتشظي الأصوات بما يمكن أن ينتج عنه خسارة بعض المقاعد لتحالف المعارضة، فضلاً عن التنافس البيني بين أحزاب التحالف نفسه في عدد من المحافظات.
وأخيراً، فإن تقديم العدالة والتنمية في برنامجه الانتخابي وعوداً كانت وردت على ألسنة أحزاب المعارضة وتحالفها من باب انتقاد الحكومة، وإن كان يسعى لسحب البساط من تحت المعارضة، إلا أنه يحمل تأكيداً ضمنياً على صحة رأي المعارضة وتأخر الحكومة في التنفيذ؛ وهو بالتالي عنصر قوة وضعف في آنٍ معاً، حسب القدرة على تسويقه وإقناع الناخبين به من الطرفين.
بالنسبة لتحالف الأمة المعارض، فإن عناصر قوته تأتي أولاً من رغبة الكثيرين بالتجديد والتغيير، وهو أمر سابق على تشكل التحالف نفسه، ويضاف له التنوع الذي يتشكل منه التحالف بحيث يستطيع مخاطبة وسحب أصوات من عدة شرائح في المجتمع، ودعم 7 أحزاب مختلفة لمرشحه.
كما يستفيد التحالف من رفع شعار إعادة البلاد للنظام البرلماني، وما يرتبط به من أفكار الحرية والديمقراطية والتشاركية وغيرها، وهو شعار عام غير مؤدلج ولا حزبي، بما ساعده على ضم أحزاب من مختلف التوجهات، ويسير في نفس المعنى لغة المصالحات والاعتذارات التي انتهجها «كليجدار أوغلو» خلال السنة الماضية مع شرائح تضررت من سياسات حزبه سابقاً، وفي مقدمتها المحافظون.
وأخيراً، فإن القائمة المشتركة التي قدمها الشعب الجمهوري مرشِّحاً قيادات من الأحزاب الأخرى في التحالف على قوائمه، فضلاً عن تنسيقه مع الحزب الجيد في 16 محافظة، يجنبه تشتت الأصوات ويقوي فرصه في الانتخابات البرلمانية.
في المقابل، تتمثل أكبر نقاط ضعف التحالف في ترشيح «كليجدار أوغلو» نفسه، إذ هو أبعد ما يكون عن صفات المرشح المثالي لمنافسة «أردوغان»، من حيث إنه شخصية سياسية حزبية معروفة (وليس حيادياً بين الأحزاب)، ورئيس الشعب الجمهوري بكل إرثه المقلق للإسلاميين والمحافظين، إضافة إلى ذلك، فقد هُزم الرجل في كل المنافسات الانتخابية التي خاضها ضد «أردوغان» وحزبه منذ استلامه رئاسة حزبه في عام 2010م، ويفتقد للكاريزما والمهارات القيادية ذات التأثير المهم في الحملات الانتخابية.
كما أن التنوع الموجود في تحالف المعارضة ليس إيجابياً صرفاً، إذ طفت على السطح خلافات واختلافات كادت تطيح به، وهو أمر يثير الهواجس لدى الكثيرين في مدى قدرته على قيادة تركيا مستقبلاً.
وأخيراً، فإن ترشح الأحزاب الإسلامية والمحافظة على قوائم الشعب الجمهوري، وإن ساهمت بدخولها البرلمان وعدم تشتت الأصوات، إلا أن أنه يفقدها شرائح إضافية كان يمكن أن تصوت لها كبديل عن العدالة والتنمية، لكنها الآن ليست بوارد التصويت لقوائم الشعب الجمهوري.
الفرص
لا تفيد استطلاعات الرأي المجراة -حتى وقت كتابة هذه السطور- في تحديد الفائز في الانتخابات المقبلة، لا بالرئاسة ولا أغلبية البرلمان، فهي تعطي نتائج متفاوتة جداً بسبب ارتباطات بعضها السياسية والحزبية، وضعف بعضها الآخر وافتقاده للأدوات المهنية، فضلاً عن حذر الشعب التركي عموماً تجاه استطلاعات الرأي والوقت المتبقي حتى يوم الاقتراع.
ولذلك، ينبغي النظر إلى العوامل المؤثرة في تصويت الناخبين، لا شك أن الأيديولوجيا عامل مهم جداً، لكنها وحدها ليست كافية لترجيح طرف على الآخر، خصوصاً وأن تحالف المعارضة متعدد الخلفيات السياسية والأيديولوجية.
كما أن العوامل الأخرى المهمة مثل الاقتصاد والزلزال واللاجئين لا تحسم الأمر بفارق كبير لأي طرف، إذ يقدم كل منهما سردية مختلفة بخصوصها، فضلاً عن أن الحكومة واجهت انتقادات المعارضة بإجراءات عديدة مثل «اقتصاد الانتخابات»، وتسريع رفع أنقاض الزلزال وبدء إعادة الإعمار وتقييد وجود الأجانب في البلاد.
ولذلك، بمحصلة كل ما سبق، تبقى للحملات الانتخابية أهمية واضحة، أكبر من أي استحقاق انتخابي سابق، في حسم النتيجة، إذ يمكنها التأثير في فئة المترددين القادرة على ترجيح كفة أحد الفريقين في ظل الاستقطاب القائم والمنافسة الشديدة.
توقعاتنا أن يفوز الرئيس التركي بمدة رئاسية إضافية، غالباً في جولة الإعادة، وأن تحصل المعارضة على أغلبية بسيطة في البرلمان، لكن المدة المتبقية ليوم الاقتراع قد تشهد تغيرات بأي اتجاه، فالناخب في نهاية المطاف هو سيد الموقف وصاحب القرار الأخير.