د. حاتم عبدالعظيم
الأسماء الحسنى هي أوصاف كمال توقيفية، سمى الله بها نفسه، وأمر عباده أن يدعوه بها.
وهي جامعة بين الدلالة على ذاته وصفاته جل وعلا، أو جامعة بين العلمية والوصفية.
ولعل هذا هو ما أراده ابن تيمية، رحمه الله، حين عرفها بأنها «هي التي يدعى الله بها، وهي التي جاءت في الكتاب والسُّنة، وهي التي تقتضي المدح والثناء بنفسها، والعلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك، وهي في نفسها صفات مدح، والأسماء الدالة عليها أسماء مدح»(1).
فقوله: «يدعى الله بها»؛ تعني: العلمية، و«جاءت في الكتاب والسنة»؛ تعني: التوقيف، و«تقتضي المدح والثناء»؛ تعني في عبارتنا: أنها أوصاف كمال.
والأسماء الحسنى هي أسماء بلغت الغاية في الكمال والحسن؛ «فما كان مسماه منقسماً إلى كمال ونقص، وخير وشر لم يدخل اسمه في الأسماء الحسنى»(2).
والمتأمل في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة يجد أنهما غنيان جداً بالحديث عن الله، ويجد قدراً كبيراً من المعرفة المنظمة، التي تبني تصوراً متكاملاً عن الله سبحانه، وهذا ضروري للإيمان والعبادة؛ فلا يعقل أن يؤمن المرء بإله لا يعرفه يقيناً، ولا أن يعبد رباً لا يعرفه حق المعرفة!
وهذه الأسماء عالم رحيب لا منتهى له من المعرفة، ومهما تدبر الإنسان في كل اسم منها على حدته أو حين يركب مع غيره تجلى له من المعارف والمعاني ما يملأ القلب إيماناً ويقيناً، وما يشبع تطلع العقل للمعرفة، وما يعطي الإنسان صورة كافية لبناء تصوره الإيماني عن ربه سبحانه.
وللأسماء الحسنى مقاصد عديدة، منها أن يُعرف الله بها، وأن تكون هذه المعرفة منضبطة صحيحة سالمة من الانحراف أو القصور، وأن تكون أبواباً للتعبد والتقرب إليه، فكل اسم يفتح أبواباً من العبادات الملائمة له ما كان منها بحركة القلب أو حركة الجوارح، وأن تكون أبواباً للدعاء والرجاء، وليس أحب إلى الله من أن يدعى بأسمائه التي سمى بها نفسه.
وقد ورد ذكر مصطلح «الأسماء الحسنى» في مواضع من القرآن، منها: قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأعراف: 185)، وفي الآية بيان أن الأسماء الحسنى أعلام على الرب سبحانه يعرف بها، وأنها أوصاف له يدعى بها، وأنها أصول في بناء المعرفة البشرية بالخالق سبحانه وحماية لها من الانحراف والانزلاق.
وقوله تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ (الإسراء: 110)، وهنا تركز الآية على المقصد التعبدي للأسماء الحسنى فيأمرنا الله تعالى أن ندعوه بهذه الأسماء والدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث.. إلى غير ذلك من المواضع القرآنية.
عدد الأسماء الحسنى
ثبت في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجنة(3).
لكن هل يعني ذلك أن الأسماء الحسنى محصورة في تسعة وتسعين اسماً؟
الجواب: «لا»، في قول عامة أهل العلم، ولم يخالف في هذا سوى الأشعري، وابن حزم، وذهب بعض الصوفية إلى أن لله ألف اسم، وفصّلها بعضهم فزعم أن منها: ثلاثمائة في التوراة، وثلاثمائة في الزبور، وثلاثمائة في الإنجيل، وتسعة وتسعين في القرآن، وواحداً في صحف إبراهيم(4)، ومثل هذا التحديد في إجماله وتفصيله مفتقر إلى الدليل، ولا يقبل فيه الادعاء الذي لا أصل له.
ونقل ابن العربي هذا القول معقباً عليه بقوله: وهذا قليل فيها ولو كان البحر مدادًا لأسماء ربي لنفد البحر قبل أن تنفد أسماء ربي ولو جئنا بسبعة أبحر مثله مدادًا(5).
والمسألة لا تحتاج كبير اجتهاد؛ فجملة الأسماء الواردة في القرآن الكريم والسُّنة الصحيحة أكثر كثيراً من تسعة وتسعين، ولا مجال لمجافاة ذلك، كما قال ابن الوزير، رحمه الله: «وَقد ثَبت أَن أَسمَاء الله تعالى أَكثر من ذَلِك الْمَرْوِيّ بِالضَّرُورَةِ وَالنَّص: أما الضَّرُورَة فإن فِي كتاب الله أَكثر من ذَلِك»(6).
وقد ورد في السُّنة ما يدل على أن من الأسماء الحسنى ما حجب الله العلم به عن البشر في الدنيا كما في حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «.. أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ بَصَرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي..»(7).
وهذا يدل صراحة على أن ثمة أسماء محجوبة لا يعلمها الناس إلا في الآخرة، ولا يتصور أن يحيطوا علماً بسائرها، إنما يعلمون في الدنيا أو الآخرة ما أذن الله لهم أن يعلموه (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء) (البقرة: 255).
وإذا كانت الأسماء الحسنى لا تنحصر في تسعة وتسعين، بل إن جملة الأسماء الواردة في الكتاب والسُّنة أكثر من تسعة وتسعين يقيناً، فإن المقصود بحديث الـتسعة والتسعين اسماً الإخبار بثواب من أحصاها لا الإخبار بحصرها في هذا العدد، يقول النووي رحمه الله: «لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ حَصْرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ اسْمٌ غَيْرُ هَذِهِ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُ الْحَدِيثِ أَنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فَالْمُرَادُ الْإِخْبَارُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ بِإِحْصَائِهَا لَا الْإِخْبَارُ بِحَصْرِ الْأَسْمَاءِ”(8)، ويقول البيهقي رحمه الله: باب: بَيَانِ أَنَّ لِلَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَسْمَاءً أُخْرَى، وَلَيْسَ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا» نَفْيُ غَيْرِهَا، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّخْصِيصُ بِذِكْرِهَا لِأَنَّهَا أَشْهَرُ الْأَسْمَاءِ وَأَبْيَنُهَا مَعَانِي، وَفِيهَا وَرَدَ الْخَبَرُ أَنَّ مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَفِي رِوَايَةِ سُفْيَانَ «مَنْ حَفِظَهَا» وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: «مَنْ أَحْصَاهَا»: مَنْ عَدَّهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ أَطَاقَهَا بِحُسْنِ الْمُرَاعَاةِ لَهَا، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَى حُدُودِهَا فِي مُعَامَلَةِ الرَّبِّ بِهَا، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَنْ عَرَفَهَا وَعَقَلَ مَعَانِيهَا، وَآمَنَ بِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ»(9).
وكأن الوحي الكريم على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أراد تحفيز المسلمين لتعلُّمِ الأسماء الحسنى، ومعرفةِ الله عن طريقها، والثناءِ عليه سبحانه وذكرِه ودعائِه بها، فأعلن عن مسابقة جائزتها دخول الجنة، هي مسابقة إحصاء تسعة وتسعين اسماً من أسماء الله الحسنى، يقول الغزالي: «وَالْأَظْهَر أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذكر هَذَا فِي معرض التَّرْغِيب للجماهير فِي الإحصاء»(10).
وهذا التحفيز يشتمل على وجهين عظيمين؛ الأول: نيل شرف معرفة الله جل وعلا عن طريق هذه الأسماء المباركة، والثاني: دخول الجنة جزاء لهذه المعرفة!
واختلف العلماء: هل هذه الأسماء محصورة محددة فيكون المعنى: من وفق إلى إحصاء الأسماء المقصودة بأعيانها دخل الجنة! ويكون إخفاؤها في جملة الأسماء شبيهاً بإخفاء ليلة القدر في ليالي العشر الأخيرة من رمضان؟ وهذا يبدو أقرب لظاهر الحديث وعليه تكون العبرة بالاجتهاد والتقرب حتى يبلغ التوفيق إلى إحصائها.
أو المقصود أنها تسعة وتسعون اسماً من جملة الأسماء الثابتة بغير تعيين فيكون المعنى من أحصى تسعة وتسعين اسماً من جملة الأسماء الثابتة لله تعالى دخل الجنة؟ وهذا يعني أن احتمالات هذه الأسماء لا تنحصر، وأن بوسع كل مسلم أن يختار قائمته الخاصة من جملة الأسماء الواردة في الكتاب والسُّنة، فيحصيها حفظاً وفهماً وعملاً بمقتضاها، بنية تحصيل هذا الأجر الموعود، ولا يمنع هذا بطبيعة الحال من معرفة سائر الأسماء والبحث عنها والنظر فيها! وهذا الفهم أرحب وأوسع وهذا موضع يحق لنا فيه أن نتشبث بالأوسع من باب رجاء رحمته التي وسعت كل شيء.
والأسماء –كما سبق- على ثلاثة أقسام: قسم نزل به الوحي من باب التوقيف وهذا مدعاة للتعلم، وقسم علَّمه الله بعض خواص خلقه من باب التوفيق وهذا مدعاة للتقرب، وقسم حجب الله العلم به عن جميع خلقه من باب التشويق، وهذا مدعاة لحب الآخرة التي نطلع فيها على تلك الأسماء المكنونة، وهذه الأقسام الثلاثة نص عليها حديث ابن مسعود: «أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ».
ويبدو أن القسم الذي حجبه الله من هذه الأسماء المباركة من أجلِّها وأعظمِها، حتى إنه سبحانه ادخره للعباد لتفريج أعظم كربة في تاريخ وجودهم، ألا وهي كربة القيامة، وسوف يلهم الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم هذه الأسماء في ذلك الموقف المهيب، فيدعوه بها، فيفرج الله عن العباد ببركتها، ويقبل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويبدأ العرض والحساب؛ ففي حديث الشفاعة: «فَيُؤْذَنُ لِي، وَيُلْهِمُنِي مَحَامِدَ أَحْمَدُهُ بِهَا لاَ تَحْضُرُنِي الآنَ، فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ المَحَامِدِ، وَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا، فَيَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ..»(11).
وفي رواية: «.. ثُمَّ أَخِرُّ سَاجِدًا، فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ قَبْلِي، وَلَا يَحْمَدُهُ بِهَا أَحَدٌ كَانَ بَعْدِي، فَيُقَالُ لِي: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ..»(12).
والغالب أن المقصود بهذه المحامد بعض ما حجب الله علمه عن خلقه في الدنيا من أسمائه الحسنى وصفاته العلا، وادخره لهم في الآخرة فيلهمه نبيه صلى الله عليه وسلم في ذلك الموقف العظيم ليكون سبباً في حصول الشفاعة العظمى يوم القيامة.
_________________________
(1) شرح العقيدة الأصفهانية، ص 31.
(2) مدارج السالكين، 3/ 415، 416.
(3) صحيح البخاري، 2585.
(4) انظر: فتح الباري 11/ 522، وعزاه لأبي الخطاب ابن دحية الكلبي.
(5) انظر: فتح الباري 11 / 220، وإرشاد الساري، 4/ 455.
(6) إيثار الحق على الخلق، ص 158.
(7) رواه ابن حبان 972، وأبو يعلى في المسند 2 / 249، وأحمد 1/391 و452، والطبراني في الكبير، 10352، قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح. وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجال أحمد، وأبى يعلى رجال الصحيح، غير أبى سلمة الجهني، وقد وثقه ابن حبان.
(8) الأذكار، ص 55، شرح مسلم، 17/ 5.
(9) الأسماء والصفات للبيهقي، 1/ 27.
(10) المقصد الأسنى، ص 168.
(11) متفق عليه؛ (البخاري، 7510) وفي رواية مسلم: «فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ الْآنَ، يُلْهِمُنِيهِ اللهُ» (مسلم 326).
(12) رواه أحمد في المسند (21/ 213)، وهو صحيح على شرط مسلم.