أ.د. زيد بن محمد الرماني
من الصعب أن نتصوَّر كيف يمكن للنمو الاقتصادي أن يحدث في الجنوب الفقير دون تجارة واسعة وتبادل فني، وتعاون مع الشمال الغني، وبالمثل فإن من الصعب أن نتخيَّل كيف يمكن للشمال الغني أن يحقق أمنًا أكبر دون التعاون العادل والمنصف مع الجنوب الفقير، أما أن نتصور خلاف ذلك، فمعناه العودة إلى حالة أشد من العزلة ومن الصراع بين الدول، ومن الفوضى الدولية.
إن جهود التنمية غالباً ما تؤدي إلى زيادة الهجرة من الجنوب إلى الشمال، والسبب في ذلك هو أن الميكنة وزيادة الكفاءة المطلوبة لزيادة الإنتاج ستعني أن أعداداً كبيرة من العُمَّال سيفقدون عملهم، وبارتفاع البطالة سيرتفع أيضاً عدد الناس الذين يسعون إلى إيجاد ملجأ لهم في مكان آخر، وقد تستمر هذه العملية على مدى عدة عقود؛ لأن التنمية تكون تدريجيَّة حتى في أحسن الظروف.
ومن المقدر أن أكثر من 80 مليوناً من البشر في العالم حالياً هم في حالة حركة، وهذا الرقم يشمل أناساً كان دافعهم إلى مغادرة أوطانهم هو الحروب، أو القمع السياسي، أو الكوارث البيئية، أو خطر المجاعة، أو الصعوبات الاقتصادية، أو الرغبة في تحسين ظروفهم، وحوالي 20 مليوناً منهم لاجئون سياسيون ممن ينطبق عليهم تعريف ميثاق الأمم المتحدة بأنهم أفراد يبحثون عن ملجأ لخوفهم من الاضطهاد المبني على أُسس واقعية حقيقية.
والمهاجرون المحتملون يتركزون بشدة في المناطق الفقيرة من الجنوب، وهم ينتقلون إلى بلدان مجاورة لهم في مناطقهم، وكذا يحاولون بشكل متزايد الانتقال إلى مناطق متقدمة صناعياً، مثل: أوروبا وأمريكا، إن هناك اتجاهاً لإلقاء اللوم بشأن الهجرة الحالية من الجنوب إلى الشمال؛ أي: من الفقر إلى الغنى على فشل التنمية في الجنوب الفقير، والحقيقة أن عقد الثمانينيات -وهو عقد التنمية- قد تميز بالركود الاقتصادي، وبالمستويات المتناقضة للدخل الحقيقي للفرد.
وسينظر إلى هذا العقد تاريخياً باعتباره فترة من التحول الدرامي نحو عالمية الأسواق، وما يرتبط بذلك من تنسيق عالمي للسياسات الاقتصادية الوطنية، لقد عانت بلدان العالم الثالث التي حدث فيها قدر من النمو الاقتصادي في العقود الأخيرة بشكل عام في فترات طويلة من البطالة العالية، ومن الهجرات الكبيرة منها.
يقول «الان سيمونزر»، الباحث الاجتماعي الكندي: إن معدلات النمو السكاني الطبيعي العالي وتأثير الميكنة في الزراعة والصناعة أوجدت أعداداً من العُمَّال في هذه البلدان أكبر مما يمكن أن يستوعبه الاقتصاد المحلي، وعلى مدى الثمانينيات، خسر عدد أكبر من البلدان اقتصادياً، وولدت البطالة المتصاعدة وانخفاض الدخل الحقيقي فيها أزمات سياسية وضغطاً متصاعداً من أجل الهجرة.
إن التنمية في عصر العالمية الجديدة ستكون غير متكافئة لأسباب متأصِّلة في البلدان ذاتها، وستستمر حتماً في توليد ضغوط كبيرة للهجرة الدولية، وستتغير الأماكن التي يخرج منها المهاجرون بتغير الظروف العالمية، كما أن تحول الإنتاج إلى العالمية قد دَعَمَ التقسيم الدولي للعمل؛ حيث تتركز في الشمال الغني الوظائف المتعلقة بالعلم والتقنية والتصميم، والمالية والإدارة والرقابة، بينما تتركز في الجنوب الفقير وظائف الصناعات التحويلية اليدوية التي تحتاج إلى كثافة الأيدي العاملة، ويؤدي النمو الاقتصادي في الشمال الغني إلى الطلب المتزايد على الخدمات والأنشطة المعاونة الرخيصة في البلدان المتقدمة ذاتها.
إن الاتجاهات الحالية للهجرة من الجنوب للشمال نظام عالمي من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة التي يفضلها ويعززها الشمال، وإن الحلول المقدمة لإيقاف الهجرة ينبغي أن تشتمل على خطة طويلة المدى، وأن تؤدي الجهود الدولية الحالية للتنمية إلى الإقلال من الهجرة على المدى الطويل.