اشتد الضغط في المرحلة الأخيرة على المنطقة العربية في 3 مناطق إستراتيجية، وهي: منطقة الشرق الأوسط، ومنطقة القرن الأفريقي وحوض النيل، ومنطقة المغرب العربي الكبير؛ الأمر الذي يفسر المستجدات في بلدان ثلاثة، وهي: سورية والسودان وتونس.
استباق الأحداث في سورية
ففي منطقة ما يسمى بالشرق الأوسط، هناك مستجدات متعلقة بالملف السوري، أهمها محاولات إقليمية لإعادة النظام السوري إلى البيت العربي والتطبيع معه، مستغلة التقارب بين أنقرة ودمشق الذي أملته المصالح الأمنية لتركيا بإحداث شريط أمني على الحدود بين البلدين حتى لا تتكرر العمليات الإرهابية التي قامت بها منظمة «بي كا كا» الإرهابية في العمق التركي.
من الواضح أن أطرافاً عربية تسابق الزمن تخوفاً من سقوط النظام السوري في أيدي المعارضة، بعد أن تبين أن المكون الأساسي في المعارضة هم الإسلاميون حاملو الفكر الوسطي المنفتح على التعددية في ظل ديمقراطية حقيقية، فلا غرو أن مثل هذا المعطى سيقلب موازين قوى المنطقة باعتبار أن سورية بلد مهم جداً بما تمثله الشام من عراقة تاريخية وأهمية إستراتيجية في محيطها الجغرافي.
وبدون شك، فإن مستجدات الملف السوري سيكون لها تأثير مباشر على القضية الفلسطينية بحكم الجوار، وهو الأمر بعينه الذي ينطبق على مصر البلد العربي الإستراتيجي الذي شهد بدوره مستجدات عميقة الأثر بعد سيطرة المؤسسة العسكرية من جديد على دواليب الدولة، وإبعاد المكوّن المدني الذي يمثل الإسلاميون فيه الطرف الأساسي، لكن التململ اليوم بسبب عمليات انتهاك حقوق الإنسان يعيد إلى الأذهان تجربة «الربيع العربي» في مصر، وهناك تخوف من أن يجد المجتمع الدولي نفسه أمام واقع لا مفر منه وهو عودة الإسلاميين إلى الواجهة في هذا البلد ولو في شكل تحالف مدني يضم قوى سياسية مختلفة.
الفوضى وسياسة الأرض المحروقة
لذا، كان لزاماً على الأطراف التي تتخوف من هذا السيناريو أن تقلب الطاولة، ولكن هذه المرة بخطة جديدة تسعى إلى استبعاد هذا السيناريو ليس في مصر فحسب، بل في منطقة حوض النيل والقرن الأفريقي عموماً.
فلا غرابة أن تتنزل المستجدات الأخيرة في السودان -متمثلة في الاقتتال بين الجيش السوداني بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي- ضمن أجندة تم التخطيط لها لمنع أي عودة للإسلاميين وتحديداً حزب «المؤتمر» الذي كان يترأسه شخصية مشهورة وهو د. حسن الترابي، رحمه الله، والمطلعون على الشأن السوداني يدركون أن هذا الحزب ما زال يحتفظ برصيد شعبي، بالرغم من حملة التشويه التي لحقته بسبب سياسة نظام الرئيس السابق (المخلوع) البشير، علماً أن هذا الأخير انقلب على الترابي الذي عينه ليكون القوة الصلبة الضرورية في ذلك الوقت لتمهد لمشروع الحركة الإسلامية الذي يحمل أبعاداً حضارية.
وتبين أن القوى المستفيدة من إسقاط نظام البشير سواء العسكرية أو المدنية (ذات توجه قومي وشيوعي وطائفي وقبلي..) كان يجمع بينها معارضة مشروع الحركة الإسلامية، بل إن المكون العسكري بشقيه، وتحديداً قيادتي الجيش، والدعم السريع، لم يتوان عن التطبيع مع الكيان الصهيوني، الأمر الذي يفسر تحرك هذا الأخير على خط الوساطة بين طرفي الصراع المسلح في السودان، بعد أيام من كشف تقارير أمريكية عن أن البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية حثا الكيان الصهيوني على المساعدة في الضغط على الجنرالين المتحاربين للموافقة على وقف إطلاق النار.
وجاء في تدوينة دكتور تاج السر عثمان: «إذا كنت تظن أن الصراع مقتصر على البرهان، وحميدتي؛ فأنت واهم، وإن كنت تعتقد أن الأجندة ستقف عند حدود السودان؛ فأنت غارق في أوهامك..».
ولعل انسداد الأفق السياسي في السودان قد دفع بعض قيادات الجيش إلى التفكير في إمكانية المصالحة مع الحركة الإسلامية؛ لذا جاء الرد سريعاً من حميدتي وذراعه العسكرية قوات الدعم السريع، ولم يتورع هو وقواته -بدعم من أطراف داخلية وخارجية تتخوف من ظهور بديل إسلامي ديمقراطي في المنطقة العربية- عن إدخال البلاد في جحيم الحرب وتهديد وحدته، ولسان حالهم يقول: نحن مستعدون لزعزعة استقرار البلاد وهدم مقدراتها، المهم ألا يعود الإسلاميون إلى الواجهة، مهما كانت التكاليف والخسائر.
قوى الثورة المضادة والنهج الاستئصالي
والملاحظ أن هذا المنطق نفسه نجده لدى قوى حاقدة على مشروع الحركة الإسلامية في المنطقة المغاربية، وتحديداً في تونس التي تعيش أزمة سياسية حادة بسبب النهج الاستئصالي التي تتبناه قوى الثورة المضادة سواء من فلول النظام البائد أو أطراف خارجية، التي سعت بكل جهودها لإقصاء حركة النهضة، المكون المدني الإسلامي الأكثر شعبية، مستخدمة كل الوسائل مثل الشيطنة والاتهامات الزائفة والدفع إلى تعطيل مسار «الربيع العربي» الذي انطلقت شرارته في تونس، وذلك عبر مسار مضاد فيما يسمى بحراك 25 يوليو (غلق البرلمان وحل الحكومة وفصل قضاة وتعيين آخرين مكانهم وإصدار سلسلة من المراسيم).
والنتيجة حملة اعتقالات في صفوف المعارضين، ومن بينهم أ. راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة الرئيس السابق الشرعي للبرلمان المنتخب انتخاباً حرّاً وديمقراطياً، كل ذلك في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية خانقة.
ويتضح من خلال الأمثلة الثلاثة وجود خيط ناظم بينها يتمثل في التقاء مصالح أطراف داخلية تنتمي إلى الدولة العميقة والثورة المضادة مع مصالح قوى خارجية تسعى بكل جهودها إلى عرقلة التحول الديمقراطي المدني الذي أفرزه «الربيع العربي» الذي أبرزَ قوى إسلامية جادة ومنفتحة على الديمقراطية والتعددية، ولها رصيد شعبي يؤهلها للحكم ولصنع القرار، وتقديم بديل يعيد السيادة الحقيقية لشعوب المنطقة بعيداً عن مسارات التبعية للقوى الكبرى في ظل احترام قانون الندية والمنافسة الشرعية، على غرار ما شهدته تركيا في العقدين الأخيرين.