من أخطر المسائل حساسية في «فقه المعاصرة»، التي تواجه الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية المعاصرة، هي: سؤال الدولة وعلاقتها بالدين، أو تلك العلاقة الملتبسة بين الدين والدولة أو بين السياسة والأخلاق أو بين الهوية والقيم.
وقد لا تكمن الإشكالية على مستوى الإسلاميين بقدر ما تواجههم على مستوى البيئة الشعبية والرسمية، وقد لا تتمركز هذه الإشكالية على المستوى النظري بقدر ما هي خطيرة على مستوى الانتقال من الفكر إلى الفعل لديهم، مع أنه لم تكن هناك إشكالية جوهرية في تطبيق الأنموذج الإسلامي في المواءمة بين الدين والدولة عبر مسيرة التاريخ الإسلامي تنظيراً وتنفيذاً، فقد صنع أتباع النص الإسلامي روائع الحضارة الإسلامية الأطول في تاريخ البشرية، التي عاش العالم في ظلالها، وامتدَّت إشعاعاتها إلى الحضارة الغربية المعاصرة عبر الاحتكاك المباشر معها في الأندلس، وعبر سرقة الأرشيف ومنتج الحضارة الإسلامية من طرف الدول الاستعمارية المعاصرة.
إنَّ قدَر الفكرة الإسلامية -التي تتناغم مع الطبيعة الدستورية والقانونية للإسلام- هو الوصول إلى الدولة والنهضة والحضارة وأستاذية العالم، كما قال تعالى: (حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه) (الأنفال:39)، ومن خصائص هذه الفكرة أنها حيَّة ومتحركة ضمن السيرورة السُّننية النصية للتجديد على رأس كل مائة سنة لهذا الدين، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كل مائة سنة مَن يجدِّد لها أمر دينها»، وهي صيرورة تاريخية حتمية في الاستئناف الحضاري للأمة من جديد، وذلك لخصوصية هذه الفكرة الدينية التي لا تتعرَّضُ للسقوط الكلي في غياهب ما بعد الحضارة، وفق ما عبَّر عنه فيلسوف الحضارة في العصر الحديث الأستاذ الكبير مالك بن نبي (1905 – 1973م)، إذ يقول في إحدى حواراته عام 1971م: «إنَّ المشكل الرئيس –بل أمُّ المشكلات– التي يواجهها العالم الإسلامي هي مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة، وكيف تعود الشعوب الإسلامية التي خرجت من حلبة التاريخ لدورة حضارية جديدة».
إن سقوط الحضارة الإسلامية ثم الدولة الإسلامية رسمياً عام 1924م لا يعني السقوط الكلي لكل عناصرها، لبقاء الفكرة الإسلامية على مستوى الفرد والمجتمع، وهو ما اشتغلت عليه الحركة الإسلامية في القرن الماضي على مستوى الصحوة الإسلامية ضمن فقه الدعوة، رغم المحاولات الضارية للحركة الاستعمارية والاستشراقية التي اجتاحت العالم الإسلامي في العصر الحديث للقضاء عليها عبر المسخ الثقافي والاستلاب الحضاري، ومحاولات تدجين عناصر الهوية والانتماء.
ولا يمكن التصديق في حق الفكرة الإسلامية بالخروج الكلي لها من الدورة الحضارية بشكل نهائي، والخلود في مرحلة ما بعد الحضارة، بسبب ذلك الحفظ الإلهي النظري للمادة الخام للحضارة الإسلامية، وهو الوحي، في قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحِجر: 9)، ولعدم وقوع الفراغ في الرجال الحاملين لهذا المشروع وفق سُنَّة الاستبدال المباشر في قوله تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38)، ولعدم انقطاع الأنموذج التطبيقي المؤسَّسي الجماعي الحامل لهذا المشروع الرباني، والممتد عبر الزمان والمكان والإنسان وفق الحقيقة النصية في الحديث النبوي الشريف: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم مَن خالفهم ولا مَن خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك».
إلا أن التحدي الكبير الذي يواجه الحركة الإسلامية المعاصرة، وهي تعيش هذا المخاض العسير والانبعاث من جديد، هو: تحدي عبور الفكرة الإسلامية من الصحوة على مستوى خط المجتمع بفقه الدعوة، إلى النهضة على مستوى خط السُّلطة بفقه الدولة، ومنها إلى الشهود الحضاري على البشرية جمعاء، كاستحقاق تاريخي سنني لهذا الاستئناف الحضاري للأمة.
ومن المقاربات الحاملة لهذا الوصل، هي: مقاربة التخصُّص الوظيفي، وفقه إدارة مجالات العمل الأساسية للحركة الإسلامية، وخاصة في التمييز بين الوظيفة الدعوية من أجل إقامة الدين، والوظيفة السياسية من أجل إقامة الدولة في بُعديهما الوظيفي والرسالي.
إن المشكلة الأساسية للحركات الإسلامية اليوم هي عجزها عن العبور إلى الدولة، وأنها -بإرادتها أو بغير إرادتها- قد تحوَّلت إلى أحزاب سياسية تسعى إلى الوصول إلى الحكم، ولكنها لم تجد إلى ذلك سبيلاً رغم طول مسيرتها وتنوُّع تجربتها، ويرجع السبب في ذلك إلى حالات الضعف والترهُّل وعدم القدرة على المواءمة بين قيم الدين وأدوات الدنيا في السير بهذا المشروع إلى قدَرِه المحتوم، وهو الشهود الحضاري، كما قال تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، ولذلك فإنه من الاستحقاقات التي تواجه الحركة الإسلامية المعاصرة هو موضوع التجديد في حدود الوصل أو الفصل بين السياسي والدعوي، وفقه الموازنات بين إقامة الدين وإقامة الدولة، وفقه الأولويات في سؤال مدخل الإصلاح والتغيير، هل هو: سياسي فوقي أم دعوي تحتي؟
ولا يمكن للحركة الإسلامية -تحت ذريعة إكراهات السياسة والحُكم والضغوط الخارجية- أن تتجرد من هويتها، فلا تربط ربطاً علمياً وواقعياً بين المقاربة الفكرية والسياسية وبين التقعيد العقلاني الأصولي والمقاصدي الشرعي.
وإذا كانت مسألة إقامة الدين محسومة وفق ذلك الخطاب الإلهي التكليفي: (أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: 13)، فإن مسألة إقامة الدولة، وعلى أساس قيمي أخلاقي (ديني) هي المسألة الأخطر والأكثر حساسية، وهو ما يتطلب فك خيوط الاشتباك العلمي في تأصيل المسألة السياسية (الحكم والدولة) في أي الخانات والمجالات التي تنتمي إليها من الدين: هل هي من الأصول العقَدية أم من الفروع الفقهية؟ ومرتبة هذا الفقه السياسي ضمن المنظومة التشريعية الإسلامية، ووضعها في سلم الترتيب التشريعي الأصولي وفق دلالة القرآن الكريم والسُّنة النبوية الصحيحة، وفي ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية.
ومهما يكن من ذلك الخلاف الفقهي في المسألة قديماً وحديثاً، واختزالها بكلِّيتها: هل هي من الأصول أم من الفروع، فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية (661 – 721هـ) في كتابه «السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية»: ويجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بدَّ لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا خرج ثلاثة في سفر فلْيُؤمِّروا أحدَهم»؛ وهو ما يعني أن هناك تكاملاً بين إقامة الدين عبر الوظيفة الدعوية، وإقامة الدولة عبر الوظيفة السياسية، حتى تنتظم حياة الناس بين وازع القرآن ووازع السلطان، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الله يَزَعُ بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن»، وقال: «صنفان مِن الناس إذا صلحَا صلح الناس وإذا فسدَا فسد الناس: العلماء والأمراء»، وهو ما يفرض التكامل بينهما.
فقد يكون أصل المسألة السياسية بإقامة الدولة من الأصول، وقد يكون شكل الدولة والخلافة، وإدارة شؤون الحكم وآليات ممارسة السلطة من الفروع الفقهية والمسائل الاجتهادية، وهو ما يعني أن إقامة الدولة لا تقِلُّ وجوبية عن إقامة الدين، وأن أي فكرة -مهما كانت مثالية أو معصومة- لا معنى وجودياً لها ما لم تصل إلى الدولة، وتحوِّل جوانبها الإجرائية إلى نجاح الإنسان في الدنيا، وفوزه في الآخرة.