بعد أن حقق الإنسان حلمه في أن يرى وجهه بسهولة ووضوح مع اكتشاف المرآة الزجاجية وتطويرها، استمر الحُلُم في تثبيت تلك الصورة في لحظتها الزمنية والاحتفاظ بها، وقد تم ذلك باختراع الصورة الفوتوغرافية التي أوقفت الزمن في لحظة معينة وسجلتها.
إنها نقلة كبيرة جداً تُحَقِق طرفاً من حلم الإنسان بالخلود، وهو الحُلم الأكبر للإنسان، وهو المدخل الذي نفذ منه الشيطان لأبينا آدم، وأغواه به للأكل من الشجرة المحرمة: (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ) (طه: 120).
والخلود الذي يحلم به الإنسان هو توقف الزمن عند لحظة معينة يكون فيها صحيحاً معافى سعيداً، واستمرار هذه اللحظة هو الوعد الموعود لأهل الجنة:
«ينادى مُنادٍ يوم القيامة على أهل الجنة: إنَّ لكم أن تَصِحُّوا فلا تسقَموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تشِبُّوا فلا تهرَموا أبدًا، وإنَّ لكم أن تنعَموا فلا تبْأسوا أبدًا» (صحيح مسلم).
هذه اللحظة التي يتوقف عندها الزمن ويتم تسجيلها في عمر الإنسان كانت باهظة الثمن جداً ومُجهِدَة ولا تتحقق إلا لآحاد الناس، تحققت لنفرتيتي، ورمسيس الثاني، وبوذا وأمثالهم من آحاد الملوك والزعماء نقشاً ورسماً على الأحجار والمعادن، وتحققت في قرون لاحقة لوحات مرسومة بالفرشاة والألوان للعائلات المالكة والثرية، وكان الرسام واحداً من أهم موظفي بلاط الأسر المالكة في القرون الوسطى.
وكأي اختراع في حياة البشر يبدأ متعثراً ناقصاً محدوداً جغرافياً، محدود الاستخدام لقلة من الناس، ثم يبدأ في الانتشار، وقد بدأت إرهاصات تحقق حلم التصوير الشمسي في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ومع نهايات القرن بدأ في مزيد من التطوير والتوسع، ومع بدايات القرن العشرين بدأت أستوديوهات التصوير واستخدامات الصور الشخصية في الانتشار.
وبدأ ما تم تناقُلُه عن توقيف يوشع بن نون لشمس يوم الجمعة عن الغروب حتى ينجز مهمته الحربية قبل حلول يوم السبت (العطلة الإجبارية وفق العقيدة اليهودية)، بدأ يتحقق طرف منها بحبس الضوء وتوقيف الزمن في لحظة التصوير وتسجيلها.
وبدلاً من صورة الملوك والأعيان المرسومة بالفرشاة والمعلقة في القصور والمتاحف فقط، بدأ ظهور الصورة الفوتوغرافية بالأبيض والأسود لرب الأسرة أو صورة عائلية تتصدر قاعات الجلوس في غالبية البيوت في المدن، وصورة الشباب المجندين في الجيش تتصدر قاعات الجلوس في البيوت الريفية، وزاد بعضهم بعض مظاهر التَّرَف لصورته بوضع السيجارة في يد والراديو الترانزيستور في يد، مع الحرص على ظهور ساعة اليد في أحد المعصمين.
ومع انتشار كاميرات التصوير في النصف الثاني من القرن العشرين، تحررت الصور من الوضعية الثابتة في الأستوديو؛ لتنتقل إلى سهولة تسجيل المناسبات والرحلات، ثم بلغ الأمر مداه مع نهاية القرن العشرين بظهور آلة التصوير ضمن الهاتف المحمول، وما كان عسيراً منذ سنوات صار ميسوراً.
ودار الزمن دورته، وجرت سنة الحياة مع تعاقب الليل والنهار الذين يُبليان كلَّ جديد، وبعد أن كانت الصورة عزيزة مكرمة، توضع في إطار، وتُعَلَق على الجدار، وتصنع حدثاً، وتكشف جريمة، وتوثق تاريخاً، صارت مبتذلة في كل يد، وصارت الصورة سيلفي بشكل «بوز البطة».
هذه الصورة قمت بتصويرها من متحف الحرب في فيتنام، وهي صورة أيقونية لالتقاء شعب جنوب فيتنام مع شماله وتوحيد فيتنام بعد دحر العدو الأمريكي.