أبو قرصافة.. له خبر شائق وإليكموه من بدئه..
من وراء أكثر من أربعة عشر قرناً من الزمان، وفي سنوات المبعث الشريف الأولى، الصحراءُ تتمدد، تتنفس من وحي وحكمة محمد، والحكمة الزائفة بضلاله وغوايته تشهد، ويتجول قلم التاريخ ويرصد مُصلِّياً ومسلِّماً على محمد.
تقِفُ المرأةُ أمام خِبائها، تَجدُّ في تِكرارِ رجائها، هاتفةً في ولدِ أُختها: يا بُنيَّ، يا أبا قِرصْافة تعلم منزلتَك بنفسي، فلا تمرَّ على هذا الرجلِ فيُغويك ويُضِلكَ.
ولكن.. أي رجل تعنيه المرأة؟
النبي صلى الله عليه وسلم!
النبي؟! ولمَ؟!
كانت المرأةُ قد تسامعت بأمرِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم وكونتْ رأيَها فيه مما وسَمهُ به المشركون، فهم تارةً يقولون: ساحرْ؛ (قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ) (يونس: 2)، وتارة يتخبطون: شاعر؛ (بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ) (الأنبياء: 5)، وغيرهُما يفتَرون: بل كاهنْ؛ (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ {41} وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) (الحاقة).
وراب المرأة أن يُصْغِي إليه أبو قرصافة، ورابها أكثر أن يَـتَّـبِعَـهُ، فتصرُّ على أن تروِّعه(1)، وتملأ روعه(2)؛ بمعنى أنه أخطر عليه من الذئب على غنماته، وإنَّ من يُصْغِ له يفْشو الضلالُ فيه، ومنْ يسر في طريقهِ لا يعد إلى آلهِ وذويهِ، فَـتُنـَـشِط ذاكرته كل صباح: يا بني، لا تمر على هذا الرجل فيغويك ويضلك.
يطرقُ الفتى شارعاً بشياهِه صوبَ منابتِ العُشْبِ الأصفرِ من أثرِ هُبوب أنفاسِ الكفرِ عليه، مات أبوه وعاش مع أمه وخالته، ولمَّا يَفِعَ أوكلتَا إليه أمرَ الشياهِ.
وفي المرعى جلس الفتى يصارعُ الأفكارَ وتُصارعهُ، وبين جوانحِهِ تشتَّدُ الرغبةُ وتمتد، يود السماعَ من محمد.
فضُولٌ صِبياني؟ ربما.. تسلية لا تُكلّفه قدْراً من عناء؟ ربما..
ولكن خالته أوصتُه وحذرتُه وأسرفتْ في الوصايا والتحذير..
وتعترض إرادُته وصاياها، وتقاومُ رغبتُه تحذيَرها، وأعياه أن ينصاع لها، وراح يسمع من محمد.. وبحنُو تمتدُ الأيادي البيضاء لحديث محمد تُسَكن قلق رُوحه، وتمُزْق أستارَ حَيْرَاته، ويـُغرقُه الحديثُ في لذاته فينسى أمرَ غنماتِه.. ويقفُ التاريخ شاهداً ومُسجلاً ومصلياً على محمد.
ومع آخر أنفاسِ النهارِ، يجيء أبو قِرصافة بطيئاً، يُعنِّف به سؤال في إثر سؤال، وشياهُه تُشاطرُهُ البطء من جوعٍ ألمَّ بها وهُزال، ولمَّا كان على قيد خُطوات من خالته هزَّه السؤال: ما لغَنَمِكَ ضُمراً يا بسات الضروع؟!
فستر عنها كل الحال، وعجَّل مشغول البال: لا أدري..
ولأن الولوعَ بالشيءِ يحبب إلى النفس ملازمَته، ففي الصباح التالي كانت خواطُره مع خواطرِ التاريخ التي تُصلي وتُسلم وتحومُ حولَ محمد، فأتاه واستمع إليه في يومِه، وعاد بشياههِ كما عاد بها في أمسِهِ، وكان من خالته في يومِها ما كان منها في أمسِها، وفي اليوم الثالث طواه حديث النبي على الأمر الراشد السويِّ، وأتى على تردده، ولفظَ الكفرُ آخر أنفاسِه من نفَسِه..
وما حيلتُه؟ وقد عَلِمَ عِلْمَ اليقين (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) (التكوير: 19)، وأنه (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) (الواقعة: 80).
فبايع محمداً محباً مقتنعاً، وحرصاً على شياهِه وأمه وخالته قصَّ الفتى على محمدٍ قصَته، ويُسجل التاريخ ويتنهد ويصلي ويسلِّم على محمد وهو يأمره بأن يأتيه بالشياه، وبيده الشريفةِ يمسح على ضروعِها وظُهورِها، ويدعو البركة كي تحلَّ بها، ورويداً رويداً يتوافر لحمُها ولبنُها، والفتى غارقٌ في عجبٍ وإعجاب!
يا أبا قِرصْافة، أتلمحُ في المعجزةِ الشريفةِ بوادرَ أملٍ في إسلامِ أمِكَ وخالتِك؟
ها هي خالتُك أمام الخِباء ترجو عودتك، خطفت حالُ الشياه بصَرها: إنَّ أبدَانها مكتظةٌ بلحُومِها، وضُروعَها حافلةٌ بألبانهِا، وهي التي غدت صباحاً.. ما لها؟!
وعلى قسماتِ الخالةِ تتشعبُ خيوطُ الفرحةِ:
– يا بني هكذا فارع، واجعل لرعي اليوم في كل يومٍ رجعة.
بما سُتجيب يا أبا قرصافة؟
ويسمعُه التاريخُ بينما يصلي ويسلم على محمد: يا خالة، ما رعيتُ إلا حيث كنت أرعى كل يوم، ولكنَّ هناك حدثاً وخَبراً.
حدقت المرأة في وجهه مستغربة، إن راحته النفسية زائدة وتفوق ما تعودت عليه منه.. فتمتمت مرغمة: حدث وخبر؟!
وأدارت عينيها نحو الشياه مستغربة، إن حيويتها زائدة، وتفوق ما تعودت عليه منها.. فصاحت مرغمة: حدِّث وخبِّر!
صغت الخالةُ لحديث ولد أختِها الذي أتاها بمجهول ليس له مكان في عقلِها، ولا حَيِّــز في حسبانِها، عادت تحدِّق في الشياه.
اكشفي أيتها الشياه عن أبدانك وضُروعك التي تُجّاهِر بالمعجزة لتعي الفطرة السوية الأمر.
ودَهَم الأمرُ الخالة، ولكنَّها جدَّت فيه، ولم تجحد المعجزة التي نَبَّـهَت نزعتها الدينية، وغالبت الباطل في نفسها، ومزَّقته في يسر، وأطلقت فكرها فتحدث وتعجب:
مهما وفرَ خِصْبُ المرعى، وعظُمت مهارة الراعي كيف يَبْلُغ رعي اليوم الواحد بالشياه هذا المبلغ؟!
عرفت المعجزة.. فهل تجحدها؟! (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا) (النمل: 93).
وطفقت تُحدِّث نفسَها في نفسِها: إنَّ الساحرَ، والكاهنَ، والشاعرَ لا يصنعونَ هذا!
فالساحر يسحر العيون للحظات فحسب باستمالة العقول وسلبها، وبالقدرة على التمويه والخداع، وجعل الآخرين يتخيلون الأمر على غير حقيقته، وإن سحره لا يصنع هذا الصنيع بالشياه.. إذًا ما هو بساحر.
وإن الكاهن يتنبأ كذبًا بالغيب، ويخبر الأمر على جهة توقعه، وإن كذبه لا يصنع هذا الصنيع بالشياه.. إذًا ما هو بكاهن.
وإن الشاعر فحسب ينظم الشعر، وإن نظمه لا يصنع هذا الصنيع بالشياه.. إذًا ما هو بشاعر.
ولكن.. هل يستطيع هذا الصنيع إنسان؟
ولأن الفطرة السِّـويَّـة تدعو الإنسان إلى فكرة وجود خالق خليق بالعبادة والاتباع وجدت المرأة نفسها ليست كما عهدت، وارتاحت لهمس فطرتها يجيب بحنو: نعم يستطيعُه إذا كان نبياً بعثه الله.. فلئن كان الفعلُ يتناسب مع قدرة الفاعل فإن الفاعل هو الله..
أتُذعِنُ المرأة لصوتِ المشهدِ وبرسالةِ محمد تشهد؟!
ولمَ لا؟ لحظةُ صدقٍ أطفأت جمر عِصيانها وعنادِها، وهكذا الصادقون لمَّا تتبدى الحقيقةٌ على سُبُلِها..
ألم يكتمل رأيها؟
بلى اكتمل.. وحادثت أُختها فهتفت في غُلامِها: اذهب بنا إليه نُسلِّم ونشهد.
وابتسم التاريخُ وتنهّد، وصلى وسلم على محمد، وراح يقص خَبرَ جَندَرَة بنَ خَيشَنة المُضَري الُمكنَّىبأبي قِرْصافة على لسان ابنته عزة.. لنترضى مع التاريخِ عنه فقد قرأ من صفحاتِ نفسِه، وسار في الحياةِ عارفاً غايتَه، وسعى فيها سعياً عطَّر وخلَّد سيرَته، وأتى عملًا أكسبه الذكر والبقاء.
_________________________
(1) تفزعه وتخيفه.
(2) نفسه وباله.